الحوكمة الذاتية
صحيح أن الحياة قبل ما يسمى بالثورة الرقمية كانت تتسم بالبساطة والتقليد وقلة التعقيدات في مختلف المجالات، وصحيح أيضا أن الأعمال في السابق كانت تعتمد على الجهد العضلي البشري بشكل أساسي خاصة في الزراعة والتجارة والصناعة...,أما اليوم وبعد أن تغير الحال، وأصبحنا نعيش عصر الثورة الرقمية وعالم القرية الإلكترونية خاصة في مفاهيم العمل وانعكاساته على زيادة الكفاءة والفاعلية، وعلى تحسين مستوى تقديم الخدمات في القطاعين الحكومي والخاص، وفي كافة جوانب الحياة حيث الأعمال تنجز بكبسة زر والمعرفة متاحة للجميع بضغطة أو بلمسه أو بنظره، إلا أن هذا الاعتماد المتزايد على العالم الرقمي يرافقه العديد من المخاوف والتحديات الكبيرة والخطيرة مثل ضعف الأمان الإلكتروني والاستخدام غير المسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي وانتشار المعلومات المفبركة والمزيفة، إضافة إلى الاختراقات والهجمات السيبرانية وانتهاك الخصوصيات والتضليل الإعلامي وما إلى ذلك، والتي قد تؤثر سلبا على التماسك الاجتماعي وجودة الحياة، إذا لم يتم استخدامها بشكل إيجابي وهنا يبرز دور الحوكمة الذاتية كأحد الحلول العملية التي تهدف إلى ضبط وتنظيم الاستخدام الإلكتروني لتحقيق التوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية المجتمعية.
والتساؤل الذي يمكن أن نطرحه هنا ما هو مفهوم الحوكمة الذاتية، وما هي أهميتها، وكيف يمكن تكون كحل للإدمان الرقمي؟
الحوكمة كمفهوم حديث هي مجموعة القواعد والمبادئ والعمليات التي تهدف إلى ضمان إدارة المؤسسات بطريقة شفافة ومسؤولة وعادلة، مع التركيز على تحقيق الفاعلية والعدالة في استخدام الموارد، والاستجابة للاحتياجات والتوقعات المتغيرة للأفراد والمجتمعات.
بينما الحوكمة الذاتية والتي محل الحديث هي: عملية فردية تتضمن مجموعة من المهارات والآليات المنظمة التي تساعد الأفراد على إدارة سلوكياتهم، وضبط استخدامهم للتكنولوجيا الرقمية من خلال التخطيط والمراقبة والتقييم المستمر لتحقيق التوازن الصحي بين العالم الرقمي والواقع الفعلي.
وهذا يعني أن إدارة الذات تعتبر خطوة مهمة لتوجيه حياتك، وقيادة علاقاتك بشكل فعال، وعلى فهم نقاط قوتك وضعفك ومعرفة كيفية التعامل معهما، كما وتعد إدارة الذات جزءا لا يتجزأ من تطوير الشخصية والقدرة على الفعل والإنجاز.
كما أن حوكمة الشركات بمفهومها الحديث يمكن أن تعمل على إدارة أعمال الشركة، فتساهم في تنظيم العلاقة بين كل من مجلس الإدارة، والإدارة التنفيذية والأطراف ذوي العلاقة من موظفين وحملة أسهم وعملاء وموردين وأصحاب مصالح على أساس مبدأ المساءلة، وذلك من خلال الالتزام بالقواعد والتعليمات الصادرة عن الجهات الرقابية، وهكذا فإن الحوكمة بهذا المعنى هي مصممة للبيئة التجارية، إلا أن الحوكمة بالمعنى الفردي تعني تطبيق مبادئ الحوكمة على سلوك الفرد وإدارته لحياته الشخصية وممارساته اليومية، ولذلك فهي مهمة من الناحية الفردية؛ لأنها تعد أداة قوية لتطوير الشخصية وزيادة الاستقلالية والثقة بالنفس كما أنها تعلم الفرد فهم حقوقه وما يجب عليه القيام به من واجبات وأن يصبح قادراً على إدارة حياته واتخاذ قراراته بشكل مستقل دون الاعتماد على الآخرين.
ولكي نبين أن الحوكمة الذاتية يمكن أن تكون حلا عمليا للإدمان الرقمي لا بد من الإشارة إلى أنها تقوم على مبدأ التزام الفرد بضبط سلوكياته الرقمية من خلال التخطيط الواعي للاستخدام والاعتماد على العادات الصحية مثل تحديد أوقات محددة والابتعاد عن المشتتات، أو كل ما يصرف انتباه الفرد عن مهامه الأساسية أو عن تحقيق أهدافه، فقد أظهرت الدراسات أن الإفراط في استخدام هذه الوسائل يمكن أن يؤدي إلى تقليل التركيز وتدمير العلاقات الشخصية، إضافة إلى زيادة معدلات القلق والتوتر وتراجع الأداء في الحياة العملية والدراسية كما قد تسهم في الشعور بالعزلة الاجتماعية وضعف التواصل الفعلي مع الآخرين، وتضيف الدراسات أيضا أن هناك أوجه شبه بين إدمان الإنترنت وإدمان المخدرات حيث تؤثر هذه الأنماط على الدماغ من خلال إفراز الدوبامين وهو " ناقل عصبي يلعب دورا حيويا في الدماغ والجهاز العصبي، ويعتبر جزءا من نظام المكافأة في الدماغ، إذ يتم إفرازه عند القيام بنشاط ممتع مثل تناول الطعام أو ممارسة الرياضة أو تحقيق هدف، مما يجعل الأشخاص يشعرون بالبهجة عند استخدام الإنترنت أو تلقي التفاعل الإيجابي، ومن جانب آخر قد يشعرهم بالملل والتعب الذي قد يؤدي إلى تغيرات في بنية الدماغ وقدرته على أداء وظائفه الأساسية.
كما فهمته أنا من المفاهيم الشائعة في الأدبيات الأكاديمية المتعلقة بالحوكمة الذاتية والسلوك الرقمي: هو الاعتماد المتزايد على التفاعل السريع والتواصل الفوري عبر الإنترنت والهواتف الذكية، والذي يترافق مع تأثيرات نفسية وعصبية على الأفراد.
ومما لا شك فيه أن التواصل الاجتماعي في العصر الحديث أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، فهو يلعب دورا أساسيا ومؤثرا في تطوير الأعمال التجارية والصحية والاجتماعية والتعليمية والإعلامية والترفيه و... وفي كل جوانب الحياة سواء الشخصية منها أو المهنية ابتدأ من الإنترنت إلى باقي التطبيقات الرقمية والفورية. ولكن هل نحن من يدير التكنولوجيا أم هي من تديرنا؟
إذا كنا نحن من يدير التكنولوجيا فهذا يعني أننا نستخدم الهواتف الذكية كأداة لتحسين حياتنا مثل التواصل مع العائلة والعمل عن بعد والتعلم الإلكتروني واستخدام التطبيقات التكنولوجية الصحية، وأننا قادرون على مقاومة الإغراءات الرقمية مثل التصفح العشوائي أو الاستخدام غير الهادف... كشخص يقرر فتح البريد الإلكتروني فقط خلال ساعات العمل أو الرد على الرسائل في أوقات محددة.
أما إذا كانت التكنولوجيا هي من تديرنا، فهذا يعني أن قراراتنا وسلوكياتنا اليومية متأثرة بتقنيات مصممة لجذب انتباهنا كشخص يستيقظ من النوم صباحا وبدلا من بدء يومه بمهامه أو خططه، يفتح هاتفه مباشرة لتصفح التيك توك أو إنستغرام ويقضي ساعات متواصلة يتنقل بين المنشورات ومقاطع الفيديو، دون أن يشعر بالوقت متجاهلا لواجباته اليومية كالعمل والدراسة أو حتى تناول الطعام.
مما يدلل على أن التكنولوجيا ليست شرا مطلقاً ولا خيرا مطلقاً والأمر يعتمد على وعينا، وعلى طرق استخدامنا لها.
تعريف التقشف الرقمي: هو أسلوب يقوم على الاستخدام الواعي والمتوازن للعلاقة بين التكنولوجيا والفرد بدلا من التركيز أو الحرمان أو الامتناع الكامل، ومن فوائد هذه الاستراتيجية التركيز على الجودة بدلا من الكم، والتخلص من التطبيقات والأنشطة التي لا تضيف قيمة حقيقية للحياة واستبدال الأنشطة المهدرة للوقت ببدائل ترفيهية أو تعليمية مفيدة واستخدام لتعزيز الإنتاجية والتطوير الشخصي بدلا من التشتت والإدمان، إضافة إلى استراتيجية الحوكمة الذاتية، والتي تعنى بوضع آليات وقواعد تمكن الأفراد من إدارة وجودهم الرقمي واستخدامهم للتكنولوجيا بوعي وفعالية مثل تخصيص أوقات يومية أو أسبوعية وإغلاق الأجهزة أثناء تناول الطعام، أو في وقت النوم، وتعطيل الإشعارات غير الضرورية، وذلك لتعزيز الأنشطة غير الرقمية مثل الرياضة، والقراءة واللقاءات الاجتماعية كبديل عن الاعتماد الكامل على العالم الرقمي.
وأخيرا: نعتقد أن الحوكمة الذاتية عندما تكون مدعومة بمبدأ التقشف الرقمي يمكن أن تشكل حلا ومساهمة فعالة لتحقيق حياة أكثر وعيا وسيطرة، فالهدف ليس التخلي عن التكنولوجيا أو مقاومتها وإنما استخدامها بوعي واستراتيجية بحيث تبقى وسيلة تخدم احتياجاتنا بدلا من أن تتحول إلى عبء يهيمن على حياتنا بأبعادها المختلفة.