والدي والأمل المفقود
- إيماناً بالمبدأ الذي بُنِيت عليه مقولة جول فيرن: ”بينما هناك حياة هناك أمل“، قام والدي بشراء أرض في حي المحيط، وتقع بعد مسافة غير طويلة من مصنع الهاجري للثلج، وقد اشتراها من صاحبها على دفعات منتظمة؛ وبدأ ببنائها لاستخدامها كورشة نجارة، ولكنه سرعان ما أعادها لصاحبها لعدم مقدرته على مواجهة ضغوط الدّيَّانة ومطالباتهم، ومنها الرواتب المتراكمة لبعض العمال، وكذلك مصاريف العائلة الكبيرة بالبيت العود، من مؤونة وكهرباء ومصاريف مدارس وغيرها من المصاريف، وقام بتسوية موضوع شراء الأرض من صديقه حيث استعاد منه الأقساط التي دفعها له، أو اتفق معه على تسوية فيها رضا الطرفين، إلا أن هذا الموضوع قد أقلقني كثيراً لأن الوالد ”رحمه الله“ كان يأمل أن يُحسن من وضعه ووضع العائلة الكبيرة وأن يهرب من مشكلة الاستئجار الذي يأكل أرباح المنجرة، وهذا ما تفعله أمثال هذه الظروف برجلٍ يحاول أن يتمسك بالأمل وأن ينظر للمستقبل بمنظار جميل، إلا أنه يجد هذا الأمل قد فُقد من أمام عينيه بعد أن كان ماثلاً أمامه وينظر إليه بفرح واستبشار.
أنا كنت أحد شهود هذه الحالة لأنه كان يأخذني معه إلى تلك المنجرة الجديدة في حيّ ”المحيط“ خلف مسافة ليس كبيرة من مصنع الهاجري للثلج، وهو المصنع المعروف عند كل المجتمع السيهاتي حتى يومنا هذا، وهو مقابل للمشتل الذي تستخدمه البلدية لشاحناتها ومعداتها، وعندما كنت أذهب مع والدي في سيارة المنجرة كان العمال يشتغلون في تجهيز الأعمدة الحديدية للورشة الجديدة وأعمال اللحام قائمة على قدمٍ وساق لبعض الأضلاع والزوايا التي يتم تركيبها على تلك الأعمدة، لأنني عندما كنت أذهب مع والدي وقتئذٍ كانوا قبل عدة أسابيع انتهوا من القواعد وتركيب الأعمدة الكبيرة الجانبية وبقي بعض الأعمدة الوسطى في الجدران الأربعة، إلا أنه بعد عدة أسابيع سمعت من والدي وهو يتحدث مع أمي عن موضوع هذه الورشة وأنه اضطر إلى عدم إكمال العمل بعد الخسائر التي وضعها فيها لأن ضغوط الديّانة قد أضرّت به، وكذلك التزاماته تجاه رواتب العمال وبعض المسؤوليات الأخرى، وأعاد الأرض لصاحبها بعد التسوية التي أشرت إليها، وبذلك يضيع الأمل الذي كان يرسمه والدي للتهرب من مشكلة الاستئجار وأكله للأرباح بل أكله لرأس المال إن لم تكن هناك أرباحاً بسبب ضعف العمل أو توقفه في بعض الأشهر.
الروائياتي:
- من الغريب أن لا تكون هناك برامج مناسبة ورسمية تشجيعية لذوي المهن الصناعية؛ كالتي يمتهنها والدك؛ على أن تمكنهم من الحصول على قروض بلا فائدة وتسهيلات تمكنهم في ذلك الزمن من حالة الاستقرار وتملّك الورشة حتى يعانوا من دفع قيمة استئجار الورش - وعادة تكون مبالغ الاستئجار عالية قياساً للدخل المتوسط لأمثال هذه المهن.
المسك:
- ذلك الزمن - قبل نصف قرن - لم تكن هناك برامج من هذا النوع الذي أشرت إليه، وإن كانت موجودة فهي بحكم النادر والنادر شبيه العدم، وإنما الموجود هو البنوك حيث تتعدد برامج القروض، فهناك القروض بكفيل مليء، والقروض برهن الأراضي والعقارات، وهناك قروض شخصية كقروض الزواج - مثلا -، والقروض الزراعية، وبرامج قروض وتسهيلات وكلُّها لا تنطبق على حالة والدي أبداً، وبذلك يكون العمل في المنجرة بمثل هذه الظروف الصعبة عملاً مُتذبذبًا وقلقًا، والإيراد كلّه سيذهب للمصاريف، لا سيما إذا تذبذبت عملية التحصيل وأصبحت ضعيفة بسبب تنكّر العملاء عن سداد ما عليهم أو عن معظم ما في ذممهم.
الروائياتي:
- السنوات طويلة التي مرت على والدك في عمله كنجار ثم في عمله في مؤسسة صناعية متعددة المجالات كالسباكة والكهرباء والألمنيوم، والبناء، بالإضافة لأعمال النجارة، ثم عودته مرة أخرى للنجارة، دون أن يقدر على امتلاك قطعة أرض ليبني عليها ورشة كبيرة للنجارة وللمجالات الأخرى المذكورة، هذا شيء عجيب في ظل الاقتصاد القوي الذي مرت به تلك العقود الماضية - أي في سنوات الطفرة الاقتصادية، وقد كان والدك - كما أخبرتني - يمتلك مع إخوته منجرة صغيرة في شارع السوق مقابل مسجد الإمام الرضا ، وقد ورثها من مع إخوته وأخواته من جدّكم الحاج مدن بن علي بن صالح المسكين ”رحمه الله“، ثم جرت تصفية كانت لصالح إخوته عام 1411 هـ حيث أخذ مكائن ومعدات المنجرة كاملة، وتنازل عن حقه في البيت العود، وعن حقه في العمارة بشارع السوق، وعمل نجارا حرّاً حتى آخر حياته في 3/11/1440 هـ، ولم يستطع امتلاك أرض ليبني عليها منجرة على الإطلاق وكان الإيجار يأكل مدخوله من أعمال النجارة، إضافة إلى تأخّر الكثير من الناس عن سداد مستحقات له من الأعمال التي يقوم بها لهم، حتى كبر وتقاعد عن العمل باختياره، ولم يكن له راتبا تقاعديا بل كان يعيش عصامياً من كد يده بأعمال الصيانة في مجال النجارة والعمال الخشبية الخفيفة، إضافة إلى بعض المعونات من أبنائه ومن أحد إخوته ولم يتحقق حلمه بامتلاك أرض ليبني عليها منجرته الخاصة على الإطلاق، وهذا الحلم قام بتحقيقه بمحاولة لشراء أرض قبل عقود قليلة ماضية وسرعان ما تبدد الحلم وأعاد الأرض لصاحبها لعدم مقدرته على سداد باقي قيمتها.. وتبدد الحلم كالدخان.
هذا الأمل المفقود له مثيل في الروايات والقصص والحكايات العربية والآسيوية والغربية، وهي يذكرني بالعديد من الأمثلة في مختلف مجالات الحياة، فحلم والديك ليس هو الوحيد بل هو يُعيدنا لكل ما يطمح إليه الكثير من الشخصيات في الأعمال الأدبية؛ وإليك بعض الأمثلة:
ففي الأدب العربي نقرأ في ”أولاد حارتنا“ لنجيب محفوظ ما يحلم به الأب في بناء بيت جديد، كما نقرأ في ”البيت الكبير“ لإحسان عبد القدوس حيث تعكس رغبة البطل في امتلاك منزل مستقل، وكذلك نقرأ في ”الطريق إلى مكة“ لنجيب محفوظ، عندما ذكر رغبة البطل في بناء مستقبل أفضل، أما في الأدب الآسيوي فنقرأ ”الغابة المقدسة“ لاريغو كيودا «اليابان» التي تظهر حلم البطل في بناء منزله الخاص، وفي رواية ”الطفولة في قرية صغيرة“ لليو تولستوي «روسيا» قام بتصوير رغبة البطل في امتلاك أرضه الخاصة، وكذلك نقرأ ”شجرة النخيل“ لكاتو كازو «اليابان» التي عكست حلم البطل في بناء مستقبل أفضل، أما في الأدب الأوروبي فنقرأ ”أليس في بلاد العجائب“ لويس كارول «إنجلترا» التي أظهرت حلم أليس في العثور على مكانها الخاص، وكذلك نقرأ ”الغابة المظلمة“ لجوزيف كونراد «بولندا» الذي ذكر رغبة البطل في بناء مستقبل أفضل، ونقرأ أيضًا ”الطفولة السعيدة“ لجين أوستن «إنجلترا» التي عكست رغبة البطلة في امتلاك منزل مستقل، وفي الأدب الغربي نقرأ ”البيت الصغير“ لورا إنغلس ويلدر «أمريكا» وقد أظهرت حلم العائلة في بناء بيتهم الخاص، ونقرأ في ”الغرب المتوحش“ لزاني غراي «أمريكا» ما ذكره عن رغبة البطل في بناء مستقبل أفضل، ونقرأ ”أنا كارينINA“ لجين أوستن «إنجلترا»، حيث عكس هذا العمل الروائي رغبة البطلة في امتلاك منزل مستقل.
أما من المسرحيات فنقرأ ”الخوف من الخوف“ لجبران خليل جبران: يظهر حلم البطل في بناء مستقبل أفضل، كما نقرأ في ”الغابة المظلمة“ لمارك توين الذي ذكر رغبة البطل في بناء مكان خاص، نقرأ ”البيت الكبير“ لمحمد عبد الحق حيث عكست هذه المسرحية رغبة البطل في امتلاك منزل مستقل.
أما من المجموعات القصصية فنقرأ ”قصص الطفولة“ لجبران خليل جبران التي أظهرت حلم الأطفال في بناء مستقبلهم، وأيضاً مجموعة ”قصص الشعب“ لمحمد صادق الذي تطرق إلى رغبة الشخصيات في امتلاك أرضهم الخاصة، ونقرأ أيضاً مجموعة ”قصص الحب“ لإحسان عبد القدوس حيث ذكر رغبة الشخصيات في بناء مستقبلهم، وهناك أمثلة كثيرة تعكس الحلم في امتلاك مكان خاص، وتظهر الصعوبات التي تواجهها الشخصيات في تحقيق هذا الحلم.
ووالدك من عالم الواقع، وقصته في الكفاح من أجل تحقيق الحلم له مبرراته على مستوى الحياة الشخصية كفرد، وكأسرة، وكعائلة كبيرة أيضاً، وما هذه السيرة التي تسردها عن تجربتك الشخصية، وتجربة أسرتكم الصغيرة، وعائلتكم الكبيرة في البيت العود إلا جزء من هذه المعاناة الحقيقية لكل أفراد العائلة، والتي تصلح لمثل هذا السرد الواقعي، كتحدٍ حقيقي لكل العقبات وكإصرار على البقاء بالتوكّل والقناعة والتسليم بقضاء الله وقدره.