آخر تحديث: 19 / 1 / 2025م - 11:22 ص

اصدقْ معَ النَّاس تشارِكهُم في أموالهم

عقيل المسكين *

”اصدقْ معَ الناسْ.. تشاركهمْ في أموالهم“، هذا مثل شعبي سمعته لأول مرة من والدتي ”حفظها الله“ ونحن في البيت العود بالديرة، ولا أعلم في أي صفٍّ دراسي كنت وأغلب الظن أنني كنت في الابتدائية وقتئذٍ، ولكنني أتذكره جيدًا، وقد علمت فيما بعد من خلال قراءاتي أن عبد الله بن دلموك أورده بصيغة ”اصْدق وشارِك الناس في أمْوالها“... ويُضرب في الرَّجُل يسلِّمُه النَّاس أموالَهم ويأتَمِنُونَه عليها، وفي الحثِّ على الصِّدق وإظهار قيمته، وأنَّ من يريد أنْ يكسِب مالاً في التِّجارة أو غيرِها، عليه بالصِّدق؛ فالصَّادق يكون محلَّ ثقةِ الناس، وهذا يُذكِّر بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ - سورة التوبة، 119-، وقد كانت في نقاش مع والدي - زمانئذٍ - حول مواضيعَ شتّى ومنها أزمته المالية بسبب تأخّر بعض الزبائن عن سداد ما تبقى في ذمّتِهم من حقوق للمنجرة بعد أن انتهى والدي من تقديم ما طلبوه من أعمال صيانة أثاث أو تركيب أبواب أو نوافذ أو تجهيز كامل لبعض قطع الأثاث كالدواليب والطاولات وما إلى ذلك، واضطرار والدي للاستدانة من بعض الأصدقاء أو الأقارب لسداد المستحقات على المنجرة من رواتب أو كهرباء أو لزوم صيانة بعض المكائن ك ”الغريز“ - وهو الشحم الخاص للمكائن وأصل الكلمة إنجليزية، Grease- والديزل والأمواس والكيابل والفحمات وغيرها، أو شراء لوازم النجارة كالخشب بأنواعه والبلايود بأنواع مقاساته والمسامير والغراء الخاص بالخشب وغراء الفرميكا والفرميكا حسب الألوان المطلوبة؛ والمفصلات والبراغي والصواميل وصبغ الأساس والصبغ بأنواعه؛ وورق الصنفرة بدرجاتها المطلوبة؛ والأزياج التي تركب في الأطراف البارزة للأثاث المصنوع من البلايود، ومفصلات الأبواب الكبيرة، ومفصلات أبواب الدواليب للمطابخ، وما إلى ذلك من مستلزمات أعمال النجارة وتصنيع الخشبيات بمختلف موديلاتها المطلوبة، وكان الوالد يضطر للاقتراض من بعض معارفه لتسيير دفة العمل في المنجرة وعدم توقفها، وفي الأثناء كان ينتظر من في ذممهم بعض الحقوق للمنجرة عند الزبائن لاستلامها فيتوسع بما يحصل عليه من المال أيضاً للصرف على «البيت العود»، عائلتنا الصغيرة وعائلة الوالد حيث الجدة أم ناجي وأبناؤها وبناتها وهم أعمامي وعمّاتي، إضافة إلى سداد فواتير الكهرباء للبيت العود وللعمارة التي فيها المنجرة، وكذلك سداد الديون التي يضطر إليها ضمانًا لعدم توقف الأعمال.

وبما أن الوالد في بعض الأحيان يضطر للتأخّر عن سداد بعض الديون، مما يوقعه في الكثير من الحرج، إضافة إلى كون ذلك سبباً لعدم تواصل الثقة من قِبَلِ بعض هؤلاء الأصدقاء أو الأقارب، إذا ما طَلَب منهم مرّةً أُخرى لِيقفوا معه بإقراضه لتسيير شؤون العمل بضمان وجود مبالغ كثيرة لا تزال تحت التحصيل من بعض الزبائن، كما تُثبت ذلك دفاتر الاتفاقيات والفواتير الآجلة، وعادةً والدي يذكر ذلك لوالِدتي، وبالذات إذا طالب هؤلاء الأصدقاء أو المعارف أو الأقارب بما لهم من المال في ذمة الوالد، فتتحدّث والدتي بكل لطفٍ معه، وتكرّر له هذا المثل المعروف والسائر على ألسِنَةِ الناس في مثل هذه المشاكل الاجتماعية عادة.

ومن الملاحظ أن هذا المثل يُعتبر قاعدة مهمة في علم الائتمان الذي يُدرّس في الجامعات بتخصص ”إدارة الأعمال“ و”الإدارة المالية“، أو بتخصص ”المحاسبة“، حيث يتوجب على المنشأة أن تصدُق مع مصادر التمويل كالبنوك أو الشركات أو المؤسسات أو حتى الأفراد المليئين، ولا تستغني أي منشأة صناعية أو تجارية أو استثمارية من الاقتراض لتسيير العمليات وتحريك عجلة العمل وسداد الالتزامات الدورية يومية كانت أم شهرية أم غير ذلك، وإذا دارت عجلة المنشأة، وبدأ الإنتاج أو تقديم الخدمات بشكل مُشجّع جاءت الأرباح، وحصل أصحاب المنشأة على المستهدفات التي يتوخّونَها من قيامهم بهذا النشاط في سوق العمل.

وهذا ما لم ينتبه له والدي، وإن انتبه له عند وقوع الأزمات وتراكم الالتزامات على عاتقيه، إلا أن ”الخرق اتّسع على الراتق“ كما جاء في المثل السائر الذي قالته العرب، وقد ذكره علماء النحو والأدب ومنهم سيبويه والميداني والعسكري، وقد جاء على لسان الشاعر ابن حمام الأزدي:

كُنّا نُداريها وَقَدْ مُزِّقَتْ

وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلى الرّاقِعِ

كَالثَّوْبِ إِذْ أَنْهَجَ فيهِ الْبِلى

أَعْيا عَلى ذي الْحيلَةِ الصّانِعِ

وهذا معناه أنه قد زاد الفساد والعطب إلى درجة كبيرة لا يجدي معها أي إصلاح؛ ويضرب هذا المثل لما يتجاوز فساده كلّ حدّ، ويقال المثل بصيغة أخرى: ”اتسع الخرق على الراتق“.

ولأن الذين تراكمت عندهم حقوق المنجرة، وكذلك حقوق المؤسسة الصناعية عندما قام والدي بتطوير العمل في مكان آخر خلف مقبرة سيهات من الجهة الشمالية لعدة سنوات أخرى، وهذه الحقوق التي تراكمت عند الناس أصبحت كثيرة، وصار الوالد يحاول الحفاظ على الأعمال بطريقة التوسُّط، فالوارد من المال يذهب كلّه للمصاريف كقيمة استئجار المقر الجديد، ومجموع الرواتب الشهرية للعاملين، وفاتورة الكهرباء، وصيانة المكائن، ومصاريف السيارات وصيانتها، إلى آخر القائمة من المصروفات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ناهيك عن مصاريف المعيشة للعائلة الكبيرة في البيت العود، وكثيراً ما يحصل العجز لديه في العديد من الأشهر طوال السنة، مما يضطره للاقتراض وهكذا.

وقد خسر والدي بعض ثقة العديد من الأصدقاء والأقارب بسبب تأخره عن سداد القروض التي كان يأخذها منهم، إلا أنه قام بتسديد أغلب هذه القروض بطريقة التقسيط حتى الانتهاء من أكثرها، أما ما تبقى من الديون في ذمته فإما أن أصحابها قد سامحوه عليها أو إنهم لا زالوا يحتفظون بأوراقها لديهم، ولا نعلم من هم هؤلاء، ولم يتحدّث لنا كورثةٍ له أيٍّ منهم، أما مَنْ علِمنا بهم بعد وفاته - رحمه الله - فقد تم سداد هذه المبالغ لهم، إلا أنني أقول لكل ما قَدَّر والدي وساعده في مواجهة هذه الأزمات التي مرّ بها في سنين طويلة منذ أيام المرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، التي عشتها مع العائلة في البيت العود بحي الديرة، ثم في بيت الفردوس بالمرحلة المتوسطة، أقول لهؤلاء الذين احترموا والدي وساعدوه كما قال جول فيرن ذات يوم: ”يدين الرجل الجدير بنفسه إلى بقية البشرية التي تدرك قيمته“، وهذا يعني أن علاقة الفرد بالآخرين الذين يعيش معهم علاقة تبادلية، والذين يخالفون ذلك فهم شاذون، وهؤلاء الذين شذُّوا عن هذه القاعدة هم كل أولئك الذين في ذممهم حقوق لوالدي ولم يسددوها له، وقد نقل لي الأستاذ أحمد الربعان، وهو جار قديم لنا من أيام الديرة:

- لو أن والدك حصّل كل ما لديه من الديون التي يلاحق بها الكثير من الناس، لبنى بيته الحالي الذي بأرض النمر بالكامل دون قرضٍ من البنك العقاري، ولما اضطر لبيع بيته السابق الذي كان بحي الفردوس، ولما رحل عن الدنيا وعليه ريال واحد.

وقد وقع هذا الكلام الذي قاله الأستاذ أحمد ربعان في سمعي كالصاعقة، لأن البيت الوحيد الذي ورّثه لأبنائه مرهون في البنك العقاري حتى يومنا هذا، وجميع أولاده من بنين وبنات لا يستطيعون مُطلقًا سداد مديونيته، ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وأؤكد بأنّ أكثر المديونين لوالدي تنكّروا ولم يسددوا ما في ذممهم حتى يومنا هذا وقد مضى على إغلاق المنجرة ما يقارب ال 37 عامًا، كما مضى على وفاة الوالد ما يقارب السبع سنوات من تاريخ كتابة هذه السطور، وبعضهم قضى وذمته مشغولة بما في رقبته من دَين، وبعضهم موجود حتى تاريخ كتابة هذه السطور ولكنه يعتقد بأن الدّين يسقط بالتقادم وبالتالي فإنه لا يسدد ولا يعترف مطلقًا بأنّ في ذمته لوالدي أيّ مبلغ، وفي خاتمة هذه الذكريات أعود للمثل الذي استمعت إليه أول مرة من والدتي: ”اصدق مع الناس تشاركهم في أموالهم“، وأقول: أبي كان صادقاً في سداد كل ما عليه، ولما لم يستطع ذلك كتب كل ما عليه من حقوق في أوراق تم استلامها، وهذا دليل على صدقه مع ذاته، فرحمه الله رحمة واسعة.