آخر تحديث: 15 / 1 / 2025م - 3:34 م

في الطريق إلى الله

العمرة.. صفتها وأحكامها والمعارف المرتبطة بها

الشيخ سمير آل ربح

من نعم الله علينا أنْ جعل قبلة المسلمين الكعبة البيت الحرام في بلادنا، قريبة منَّا أنى كان مسكننا، فما هي إلا ساعات ونحن بجوار البيت العتيق؛ نزوره أنى شئنا وفي أي وقت اخترنا، في حين يعاني باقي أكثر المسلمين أشد المعاناة حتى يستطيعوا الوصول، وربما لا يُتاح لهم أكثر من مرة في العمر، أو لا يُتاح لهم وتبقى حسرة في قلوبهم!

وهذه نعمة (كباقي النعم) تستحق الشكر، شكرًا بجوانحنا بأن نستشعرها بقلوبنا وأفكارنا ونعيشها في وجداننا، وشكرًا لفظيًّا بألسنتنا فنلهج بحمد الله، وشكرًا عمليًّا بأن نسعى فعليًّا إلى زيارة البيت؛ فنعتمر ونصلي ونعتكف، ونأخذ أولادنا معنا فنربيهم على هذه الزيارة الميمونة حتى ينشَؤُوا عليها فتكون من العادات الحسنة التي اكتسبوها منَّا، وكذلك نشيع جوًّا إيجابيًا لمن حولنا من أقارب وأصدقاء وزملاء ونحضهم على ذلك، فنكون ممن (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [1] .

وبالفعل، فإن المؤمنين والمؤمنات بوجه عام يشدُّون الرِّحال لهذا البيت خصوصًا في المواسم: موسم الحج، وموسم العمرة وبالذات العمرة الرَّجبية التي اُشتهرت بين المؤمنين، وسيأتي فضلها في روايات أهل البيت ، ناهيك عن أيام السنة الأخرى؛ وبهذه المناسبة أهمس في أذن إخواني المؤمنين وأخواني المؤمنات الذين يجوبون الأرض سياحةً وتنزهًا، وينسون زيارة بيت الله وقبر نبيه وأهل البيت (صلوات الله عليهم)، فلا يؤدُّون الحج الواجب فضلًا عن المستحب، ولا يزورون النبي وأهل بيته، وهو من الجفاء الصريح الذي قد يصل إلى الحرمة في بعض مواضعه. أقول: لتكن هذه الديار لها نصيب من عنايتكم؛ لأنها من الباقيات الصالحات التي هي (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [2] ، فنكون ممن قال الله تعالى عنهم: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [3] .

ولأننا نعيش هذه الأيام موسم العمرة، إذ يستعد المؤمنون لشد الرحال لأداء العمرة الرجبية، نظرًا للتأكيد على استحباب أدائها في روايات أهل البيت ؛ لذا سوف نعرض في هذه السطور صفتها وأحكامها وبعض الإشارات للمعارف المرتبطة بها.

معنى العُمرة لغةً واصطلاحًا

العُمرة (فُعلة). يعطي هذا البناءُ المعنى الأصلَ العادي الطبيعي للفعل الثلاثي من غير دلالة على الزمن، مع زيادة بالمعنى وهي دلالة التصغير بقوة ومدة الفعل، وبأن ذلك كان لمرة واحدة فقط مرادة دون غيرها، وجاء هذا الوزن في القرآن الكريم في ألفاظ عديدة، منها: مُضْغة، شُرْبة، نُطْفة، لُجَّة، عُسرة، زُلفَة...، والجمع فُعَل وفُعلات؛ عٌمرة: عُمَر وعُمرات.

و«عُمْرة» مأَخوذ من الاعْتِمار، وهو الزيارة، ومعنى اعْتَمر في قصد البيت أَنه إِنما خُصَّ بهذا لأَنه قصد بعمل في موضع عامر، ولذلك قيل للمُحْرِم بالعُمْرةِ مُعْتَمِرٌ، وقال كراع: الاعْتِمار العُمْرة، سَمَّاها بالمصدر [4] ، مشتق من الفعل عَمَر، وهو ضد الخراب، يُعمِّر البيت أي يشيِّده، ومنه العمارة. قال تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [5] ،، أي أمركم بأن تعمروا الأرض. قال ابن منظور: «أَعْمَر المكانَ واسْتَعْمَره فيه: جعله يَعْمُره» [6] .

وفي الاصطلاح الشرعي: العمرة، هي مجموعة من الأعمال، كمناسك الحج التي تُؤدَّى وتُنجز أثناء زيارة الكعبة، وهي الطواف وركعتاه والسعي بين الصفا والمروة والتقصير.

فضل العمرة الرَّجبية

يمتدُّ موسمُ العمرة بامتداد أيام السنة، فلا وقت محدَّد لها، لكن الأفضل إيقاع العمرة في شهر رجب، وبعده في الفصل إيقاعها في شهر رمضان. عن الإمام الصادق : «المعتمرُ يَعتمِرُ في أيِّ شُهُور السَّنَةِ شَاء وَأَفْضَلُ العُمرَةِ عُمرَةُ رَجَب» [7] ، وعن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق أنه سئل: «أيُّ العمرةِ أفضلُ، عمرة في رجب أو عمرة في شهر رمضان؟ فقال: لا، بل عمرة في شهر رجب أفضل» [8] ، وعن حمَّاد بن عثمان: «كان أبو عبد الله إذا أرادَ العمرةَ انتظرَ إلى صبيحةِ ثلاثٍ وعشرين من شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ يخرجُ مُهِلًّا في ذلك اليوم» [9] .

أعمال العمرة المفردة إجمالًا

وإليك أخي المعتمر/ أختي المعتمرة أعمال العمرة المفردة مختصرًا، ويليها التفصيل:

1- الإحرام من أحد المواقيت التي سيأتي ذكرها.

2- الطواف حول الكعبة المشرفة سبعة أشواط.

3- صلاة ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم .

4- السعي بين الصَّفا والمروة سبعة أشواط.

5- الحلق أو التقصير.

6- طواف النساء سبعة أشواط.

7- صلاة ركعتي طواف النساء خلف مقام إبراهيم .

ويجب ترتيب هذه الأعمال متتاليًّا، ولا يجوز تقديم المتأخر على المتقدم.

واجبات الإحرام

المقصود من الإحرام في هذا الباب الدخول في العمرة، وهو يتحقق بأمور ثلاثة مجتمعةً:

أ. لبس ثوبي الإحرام

المقصود من (ثوبي الإحرام) هما الرداء والإزار للرجال. أما النساء فيجوز لهن الإحرام في المخيط، وإن كان في ملابسهن الاعتيادية، بشرط أن تغطي جميع الجسد، وألَّا يكون فيها زينة، فبعض أنواع العباءات التي تعدُّ زينة عرفًا لا يجوز الإحرام فيها؛ لحرمة التزيُّن على المرأة سواء أكان في حال الإحرام أم في غيره.

ب. النية

بأن ينوي القربة إلى الله تعالى، مع تحديد نوع النسك (العمرة المفردة) عن نفسه، استحبابًا أو وجوبًا (بالنذر مثلًا) أو نيابة عن غيره. ولا بأس بالتلفظ بالنية، كما ذكرنا آنفًا، فيقول مثلًا:

أُحرم للعمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

أو يقول: ”اللهم إني أريد العمرة، على كتابك وسنة نبيك“، وهذه العبارة أفضل من تلك للنص عليها.

وتجوز النيابة عن آخرين تبرعًا أو استئجارًا، واحدًا كان المنوب عنه أو أكثر، حيًّا أو ميتًا، فتجوز النيابة عن الحي أيضًا بشرط ألَّا يكون حاضرًا في مكة.

ج. التلبية

معنى التلبية لغةً: الاستجابة، إجابة النداء، الإجابة إلى طلبك [10] ، وحكى أبو عبيد عن الخليل أن أصل التلبية الإقامة بالمكان، يقال: ألببت بالمكان ولبَّبت لغتان إذا أقمت به، قال: ثم قلبوا الباء الثانية إلى الياء استثقالًا كما قالوا: تظنيت، وإنما أصلها تظننت. قال: وقولهم: ”لبَّيك“ مثنى [11] ، أي: إجابة بعد إجابة، ففيها (التلبية) معنى استمرار إجابة أمر الله؛ ما يعني الطاعة الدائمة لأمر الله تعالى، وهو غاية المؤمن الذي يبتغي رضا الله.

وفي الاصطلاح: «هي ألفاظ خاصة لا ينعقد الإحرام إلا بها» [12] . يقول من يريد العمرة: «لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لك». وعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله - في حديث - قال: «تُحرمون كما أنتم في محاملِكم تقول: لبَّيك اللهم لبَّيك لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبَّيك بمتعة بعمرة إلى الحج» [13] . وقوله: «بمتعة بعمرة إلى الحج»، هذا في حج التمتع، فلا تقال لمن يحرم بالعمرة المفردة. بل يقول: لبَّيك بعمرة مفردة.

الميقات (مكان الإحرام)

ويجب أن يكون الإحرام من أماكن محدَّدة (مواقيت)، ولا يجوز الإحرام من غيرها، منها:

1- قرن المنازل، وهو ميقات أهل الطائف ومن يمر من هذا الطريق.

2- مسجد الشجرة، وهو ميقات أهل المدينة ومن يمر من هذا الطريق.

وغيرهما من المواقيت [14] . في كتاب (المقنع) قال: «وقَّت رسول الله (صلى اللهُ عليه وآله) لأهل الطائف قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل الشام الهيعة وهي الجحفة، ولأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة، ولأهل العراق العقيق» [15] .

الإحرام من مدينة جدة

الأصل أن يكون مكان الإحرام أحد المواقيت التي جعلها الشرع المقدس، ولا يجوز تجاوزها إلا محرمًا، لكن إذا لم يؤدِّ الطريق الذي يسلكه إلى أحدها فهل يجوز الإحرام من مكان يحاذيها؟ والجواب: اتفقوا على جواز الإحرام من محاذاة مسجد الشجرة؛ لأنه مورد النص، واختلفوا في محاذاة غيرها.

ولكن، أجازوا جميعًا الإحرام قبل الميقات بالنذر؛ وهنا وقع الكلام هل في جدة نقطة تحاذي الميقات؟ أم إنها قبل الميقات فيجوز الإحرام منها بالنذر؟ أم غير ذلك؟ فالخلاف خارجي موضوعي، لا شرعي، وما يراه السيد السيستاني (وآخرون) بأنه يجوز الإحرام من جدة بالنذر. قال (دام ظله): «ويجوز هذا فيما لو علم - ولو إجمالًا - بأنَّ بين جدَّة والحرم موضعًا يحاذي أحد المواقيت، كما لا يبعد ذلك بلحاظ المحاذاة مع الجحفة، وأما إذا احتمل وجود موضع المحاذاة ولم يحرزه فلا يمكنه الإحرام من جدَّة بالنذر» [16] .

ويجوز أن يحرم من بلده (من مطار بلده مثلًا) بالنذر، ثم يركب الطائرة، مع مراعاة حكم التظليل للرِّجال، كما سيأتي.

مستحبات الإحرام

مستحبات الإحرام كثيرة، ونكتفي بما روي عن الصادق قال: «إذا انتهيتَ إلى العقيق من قِبل العراق أو إلى الوقت من هذه المواقيت وأنت تريدُ الإحرام إن شاءَ اللهُ فانتِف إبطيك، وقلِّم أظفارَك، وأطلِ عانتَك، وخُذْ من شاربك، ولا يضرُّك بأي ذلك بدأت. ثم استك واغتسل والبس ثوبيك، وليكن فراغك من ذلك إن شاء الله عند زوال الشمس، وإن لم يكن عند زوال الشمس فلا يضرك، غير أني أحب أن يكون ذاك - مع الاختيار - عند زوال الشمس» [17] .

والمستحبات المذكورة قبل الإحرام في الرواية الشريفة هي:

- إزالة الشعر الزائد من الإبطين والعانة.

- تقصير الشارب للرَّجُل.

- تقليم الأظافر.

- السواك.

ولا يضر تقديم بعض هذه الأعمال على بعضها الآخر، أي ليس هناك استحباب خاص في الترتيب بينها: «ولا يضرك بأي ذلك بدأت».

غسل الإحرام

وهو مستحب وليس بواجب، ويكفي عن الوضوء عند بعض العلماء منهم السيد السيستاني. وينبغي أن يقترن الدخول في الإحرام بالغسل، أي يُحرم بعدما يغتسل ولا يأكل بينهما أو يلبس ما لا يحل للمحرم أكله ولبسه، فإن أكل أو لبس اُستحب له إعادة غسل الإحرام. عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عن رجل اغتسل للإحرام ثم لبس قميصًا قبل أن يحرم قال: «قد انتقض غسله» [18] ، فيستحب له الإعادة.

محرمات الإحرام

وإذا جاء بواجبات الإحرام الثلاثة: لبس ثوبي الإحرام والنية والتلبية، فسيترتب عليه أمران:

1- دخوله في الإحرام، وارتهانه بأداء العمرة فعليها إتمامها، ولا يجوز له أن يترك أعمالها؛ لأنها (العمرة) وإن كانت مستحبة إلا أن الخروجَ من الإحرام واجبٌ وهو لا يكون إلا بالإحلال من إحرامه بالتقصير الذي يؤتى بعد الطواف وركعتيه وبعد السعي.

2- تحريم مجموعة من الأمور بسبب دخوله في الإحرام، فهي وإن كانت جائزة (في أغلبها) قبل الإحرام، فإنه تحرم عليه بعده للنص عليها؛ فعليه اجتنابها، وبعضها فيه الكفارة، بل بعضها الآخر مفسد للعمرة.

ومحرمات الإحرام كثيرة، أوجزها في الآتي:

محرمات مشتركة بين الرِّجَال والنساء

أ. - الصيد البرِّي، ومنه الجراد فلا يجوز صيده والإمساك به ولا أكله. أما الصيد البحري كالسمك والروبيان فلا بأس به.

ب. المحرمات الجنسية بين الزوجين، بجميع أنواعها، من قبيل اللمس والنظر إذا كانا بشهوة، والقُبلة وإن لم تكن بشهوة، وكذلك الجماع. ويحرم كذلك الاستمناء على الرجل والمرأة، وأيضًا عقد النكاح في أثناء الإحرام.

ج. استعمال الطيب شمًّا وأكلًا وادِّهانًا وتبخيرًا، وكل أنحاء استعمال الطيب.

د. النظر في المرآة بقصد الزينة، ويجوز إذا كان لغرض آخر كتضميد جرح الوجه أو استعلام وجود حاجب عليه. وكذلك يحرم الاكتحال بالكحل الأسود أو أي كحل يعد الاكتحال به زينة عرفًا.

ه. الفسوق، ويشمل الكذب والسب والمفاخرة المحرمة، وهي التباهي أمام الآخرين بالنسب أو المال أو الجاه...، إذا كانت مشتملة على إهانة المؤمن والحط من كرامته.

و. المجادلة. يحرم الجدال على المحرم، ويختص بما كان مشتملًا على الحلف بالله تعالى في الإخبار عن ثبوت أمر أو نفيه.

ز. قتل هوام الجسد، مثل القمل. أما البعوض وما أشبهه فالأحوط عدم قتلها إذا لم تسبِّب ضررًا.

ح. التزيُّن. أي اجتناب كل ما يعدُّ زينة عرفًا، سواء قصد التزُّين أم لم يقصده. وكذلك يحرم الادِّهان، وهو استعمال المواد الدهنية (والكِريمات). ولا بأس بأكل الدُّهن (والزبدة) إذا كان خاليًّا من الطيب، وإزالة الشعر من البدن وإن كان قليلًا. وتقليم الأظفار.

ط. إخراج الدم من البدن، وقلع الضرس على قول بعض الفقهاء، وحمل السلاح.

ي. قلع كلِّ شيء نبت في الحرم أو قطعه من شجر وغيره.

محرمات خاصة بالرِّجال

أ. لبس المخيط أو ما بحكمه للرَّجل. أما المرأة فيجوز لها ذلك ما عدا القفازين.

ب. لبس الحذاء والجورب وكل ما يغطي ظهر القدمين للرِّجال. ويجوز ذلك للنساء.

ج. ستر الرأس، وهكذا يحرم الارتماس في الماء حتى على النساء.

د. التظليل. وأجاز بعض العلماء منهم السيد السيستاني التظليل ليلًا، لكنه اشترط عدم نزول المطر [19] . أما النساء والصبيان فيجوز لهم التظليل ليلًا ونهارًا.

محرمات خاصة بالنِّساء

أ. ستر الوجه بالنقاب أو البوشية أو ما أشبه، ويجوز ستره باليد.

ب. لبس القفازين، على اليدين.

الطواف

(طواف) مصدر للفعل الثلاثي (طاف). في اللسان: «طافَ حَوْلَ الشيء يَطوف طَوْفًا وطَوَفانًا وتَطَوَّفَ واسْتطاف كلُّه بمعنى...، طاف بالبيت وأَطافَ عليه دارَ حَوْله» [20] ؛ وعليه فإن معنى الطواف حول الشيء (البيت مثلًا) الدوران حوله. قال تعالى: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) [21] ، ومنه أُخذ المعنى الشرعي مع إضافة معنى التذلُّل والعبودية، وفي (معجم ألفاظ الفقه الجعفري): «الطواف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة بتفاصيل وشروط محددة شرعًا» [22] ، فأغفل نية القربة إلى الله تعالى وهي المائز الأساس بين المعنى اللغوي والاصطلاح الشرعي؛ فالطواف شرعًا هو الدوران حول الكعبة المشرفة سبعة أشوط بنية التقرب إلى الله تعالى، فحاله حال الصلاة، فكما أنها (الصلاة) حركات من قيام وقعود وركوع وسجود، بضميمة التقرب إلى الله تعالى، فكذلك الطواف، بل روي عن النبي (صلى اللهُ عليه وآله): «الطَّواف بالبيتِ صَلَاةٌ» [23] .

والطائف هو الذي يطوف (يدور) حول الكعبة. قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [24] .

وللطواف شروط وأجزاء، فالشروط هي الواجبات التي يجب توافرها قبل البدء في الطواف، والأجزاء هي الواجبات التي يجب توافرها في أثناء أدائه.

شروط الطواف

1- النيَّة، بأن يقصد الطواف متعبَّدًا به بإضافته إلى الله تعالى إضافة تذلُّلية مع تعيين المنوي، فيقول (مثلًا):

أطوف حول البيت سبعة أشواط للعمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

2- الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر [25] ، فلو طاف المحدث عمدًا أو جهلًا أو نسيانًا لم يصحَّ طوافه.

3- الطهارة من الخبث، فلا يصحُّ الطواف مع نجاسة البدن أو اللباس.

4- الختان للرِّجال، والأظهر اعتباره في الصبي المميَّز أيضًا.

5- ستر العورة حال الطواف بالحدود المعتبرة في الصلاة.

واجبات الطواف

الأول والثاني: الابتداء من الحجر الأسود والانتهاء به في كل شوط.

الثالث: جعل الكعبة على يساره في جميع أحوال الطواف، فإذا استقبل الطائف الكعبة لتقبيل الأركان أو لغيره، أو ألجأه الزحام إلى استقبال الكعبة أو استدبارها أو جعلها على اليمين، فذلك المقدار لا يعدُّ من الطواف.

الرابع: إدخال حجر إسماعيل في المطاف، بمعنى أن يطوف خارج الحجر، لا من داخله ولا على جداره.

الخامس: خروج الطائف عن الكعبة وعن الصُفَّة التي في أطرافها المسمَّاة ب‍ (الشَّاذَرْوان) [26] .

السادس: أن يطوف بالبيت سبع مرات، ولا يجزئ الأقل من السبع، ويبطل الطواف بالزيادة على السبع عمدًا.

السابع: أن تكون الأشواط السبعة متواليات عرفًا، بأن يتابع بينها من دون فصل كثير.

الثامن: أن تكون حركة الطائف حول الكعبة المعظَّمة بإرادته واختياره، فلو سُلب الاختيار في الأثناء لشدَّة الزحام ونحوها فطاف بلا اختيار منه لم يجتزئ به ولزمه تداركه.

الطواف خارج مقام إبراهيم

اعتبر مشهور الفقهاء في الطواف أن يكون بين الكعبة ومقام إبراهيم ، ويقدر هذا الفاصل بستة وعشرين ذراعًا ونصف ذراع (أي ما يقارب 12 مترًا)، وبما أن حجر إسماعيل داخل في المطاف فمحل الطواف من جانب الحجر لا يتجاوز ستة أذرع ونصف ذراع (أي ما يقارب 3 أمتار).

ولكن لا يبعد جواز الطواف (على كراهة) في الزائد على هذا المقدار أيضًا، ولا سيما لمن لا يقدر على الطواف في الحد المذكور، أو أنه حرج عليه، ورعاية الاحتياط مع التمكُّن أولى. هذا وفق فتوى السيد السيستاني [27] .

صلاة الطواف

وهي ركعتان من دون أذان ولا إقامة، تنوي بأن تقول (مثلًا):

أصلي ركعتي الطواف للعمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

ثم تُكبِّر وتأتي بالركعتين خلف مقام إبراهيم قال الشيخ الصدوق: «ثم ائتِ مقام إبراهيم فصلِّ فيه ركعتين واجعله أمامَك، واقرأ في الأولى منهما الحمد وقل هو الله أحد، وفي الثانية الحمد وقل يا أيها الكافرون [28] ، ثم تشهَّد وسلِّم واحمد الله واثنِ عليه وصل على النبي ﷺ، واسأل الله تعالى أن يتقبله منك وأن لا يجعله آخر العهد منك، فهاتان الركعتان هما الفريضة وليس يكره لك أن تصليهما في أي الساعات شئت عند طلوع الشمس وعند غروبها، فإنما وقتهما عند فراغك من الطواف ما لم يكن وقت صلاة مكتوبة، فإن كان وقت صلاة مكتوبة فابدأ بها ثم صلِّ ركعتي الطواف» [29] .

السعي بين الصَّفا والمروة

(سَعْي) مصدر سماعي للفعل (سَعَى). وله معانٍ كثيرة، سَعَى إِليه: قَصَدَ ومَشَى. والذي يهمنا ما نحن فيه؛ سَعَى بين الصَّفا والمَرْوة: تردَّدَ بينهما [30] ، فهو مأخوذ من المعنى اللغوي الذي هو القصد والمشي. وفي (معجم ألفاظ الفقه الجعفري): «السعي: الطواف بين الصَّفا والمروة (بسرعة خفيفة أقل من الهرولة) » [31] ، وكان عليه أن يضيف: ناويًّا القربة إلى الله تعالى، فالسعي (كالصلاة) عمل عبادي، والساعي هو في حال عبادة وتقرُّب، وكلما استشعر المعتمر هذا المعنى في قلبه نال حظًّا أوفر وجزاءً أوفى من ربه المتعال، إن شاء الله تعالى.

قال تعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [32] .

قصة السعي

يروي الشيخ الصدوق بسند متصل عن أبيه....، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله قال: «إن إبراهيم لما خلَّف إسماعيل بمكة عطش الصبي وكان فيما بين الصَّفا والمروة شجر فخرجت أمه حتى قامت على الصَّفا فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فمضت حتى انتهت إلى المروة فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثم رجعت إلى الصَّفا فقالت كذلك حتى صنعت ذلك سبعًا؛ فأجرى الله ذلك سنة فأتاها جبرئيل فقال لها: من أنتِ؟ فقالت: أنا أم ولد إبراهيم فقال: إلى من وكلكم؟ فقالت: أما إذا قلت ذلك فقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ فقال: إلى الله تعالى، فقال جبرئيل: لقد وكلكم إلى كافٍ. قال: وكان الناس يتجنبون الممر بمكة لمكان الماء ففحص الصبي برجله فنبعت زمزم ورجعت من المروة إلى الصبي وقد نبع الماء، فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء، ولو تركته لكان سيحًا. قال: فلما رأت الطير الماء حلَّقت عليه. قال: فمر ركب من اليمن فلما رأوا الطير حلقت عليه، قالوا: ما حلقت إلا على ماء، فأتوهم ليستقونهم، فسقوهم من الماء وأطعموا الركب من الطعام، وأجرى الله تعالى لهم بذلك رزقًا، فكانت الركب تمر بمكة فيطعمونهم من الطعام ويسقونهم من الماء» [33] .

واجبات السعي

يجب في السعي أمور:

1- نية القربة إلى الله تعالى، بأن يقول (مثلًا):

أسعى بين الصَّفا والمروة سبعة أشوط للعمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

2- الابتداء من جبل الصَّفا، والختم بجبل المروة.

3- العدد في السعي، سبعة أشواط بلا زيادة ولا نقصان، فيحصل بالذهاب أربعة أشواط من الصَّفا إلى المروة، وبالإياب ثلاثة أشوط؛ فيكون المجموع سبعة أشواط.

4- أن يكون السعي على الطريق المتعارف، فلو خرج من المسعى ودخل إلى المسجد، ثم عاد إلى المسعى مرة أخرى لم يصح منه هذا المقدار، وعليه الاستدراك.

5- استقبال المقصد، فإن كان من الصَّفا استقبل المروة، وإن كان من المروة استقبل الصَّفا.

6- إباحة اللباس، فلا يجوز السعي في ملابس مغصوبة، أو على دراجة من دون رضا صاحبها.

استحباب الهرولة

وتستحب الهرولة للرِّجال دون النساء حين الذهاب من الصَّفا إلى المروة، وكذا حين الإياب من المروة إلى الصَّفا، عند العلامتين الملونتين باللون الأخضر، وروي في علة ذلك عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله قال: «صار السعي بين الصَّفا والمروة؛ لأن إبراهيم عرض له إبليس فأمره جبرئيل فشَدَّ عليه، فهرب منه؛ فجرت به السنة - يعني بالهرولة» [34] .

التقصير (الحلق)

بعد إكمال السعي، يأتي التقصير، وهو الأخذ من الشعر وقص قليل منه، والأفضل للرجال حلق الرأس بتمامه، فيقول:

أقصِّر للإحلال من إحرام العمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

وبه يتحلل المعتمر من إحرامه، فتحل له جميع محرمات الإحرام، ما عدا النساء. وتبقى حرمة الصيد وحرمة قلع نبات الحرم ما دام الإنسان في منطقة الحرم المكي.

طواف النساء وصلاته

وطريقة أدائهما كما تقدم في الطواف وصلاته، ويفترقان في النية فقط، فتقول ناويًا طواف النساء:

أطوافُ حولَ البيتِ سبعةَ أشوطٍ طوافَ النساءِ للعمرةِ المفردةِ قُربةً إلى الله تعالى.

وتقول ناويًا صلاة طواف النساء:

أصلي ركعتي طواف النساء للعمرة المفردة قربة إلى الله تعالى.

وبأداء هذين الواجبين تحل للمحرم النساء.

وبذلك تنتهي أعمال العمرة المفردة، أسأل اللهَ تعالى لي ولكم القبول والمغفرة والرضوان، إنه سميع مجيب.

[1]  العصر: 3.
[2]  الكهف: 46.
[3]  مريم: 76.
[4]  لسان العرب، ابن منظور، (ع م ر).
[5]  هود: 61.
[6]  لسان العرب، ابن منظور (ع م ر).
[7]  الكافي، الشيخ الكليني 4/ 536.
[8]  الوسائل، الحر العاملي، 14/ 301.
[9]  الكافي، الشيخ الكليني 4/ 536.
[10]  معجم ألفاظ الفقه الجعفري، الدكتور أحمد فتح الله، ص 162.
[11]  لسان العرب، ابن منظور، (ل بـ ي).
[12]  معجم ألفاظ الفقه الجعفري الدكتور أحمد فتح الله، ص 162.
[13]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، 12/ 382.
[14]  هناك مواقيت أخرى لم نذكرها، لأنها خارجة عن محل الابتلاء غالبًا.
[15]  وسائل الشيعة، الحر العاملي، 11/ 311.
[16]  مناسك الحج وملحقاتها، السيد السيستاني، م 173، ص 60.
[17]  من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، 2/ 307.
[18]  الكافي، الشيخ الكليني، 4/ 328.
[19]  مناسك الحج وملحقاتها، السيد السيستاني، م 270، ص 87.
[20]  لسان العرب، ابن منظور، (ط وف).
[21]  الواقعة: 17، وفي آية أخرى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ). الطور: 24.
[22]  معجم ألفاظ الفقه الجعفري، الدكتور أحمد فتح الله، ص 332.
[23]  عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، ابن أبي جمهور الأحسائي (محمد بن علي بن إبراهيم)، قم، مطبعة سيد الشهداء، 1403 هـ، 2/ 167. وفي هذا الحديث قال السيد الخوئي: ”النبوي لم يثبت من طرقنا“. انظر: المعتمد في شرح المناسك (محاضرات زعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي)، السيد رضا الخلخالي، 4/ 324.
[24]  البقرة: 125.
[25]  الحدث الأكبر هو ما يوجب الغسل مثل الحيض والجنابة، والحدث الأصغر هو ما يوجب الوضوء كخروج البول والغائط، والنوم، والاستحاضة الصغرى.
[26]  (الشاذَرْوان) بفتح الذال وتسكين الراء، وهو ما ترك من عرض أساس الكعبة خارجًا.
[27]  مناسك الحج وملحقاتها، السيد السيستاني، م 100، ص 303.
[28]  قراءة خصوص هاتين السورتين على نحو الاستحباب، ويجوز قراءة غيرهما.
[29]  من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، 2/ 543.
[30]  المعجم الوسيط، نخبة من اللغويين بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، (س ع ي).
[31]  معجم ألفاظ الفقه الجعفري، الدكتور أحمد فتح الله، ص 283.
[32]  البقرة: 158.
[33]  علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ص 432.
[34]  علل الشرائع، الشيخ الصدوق، 2/ 432,433.