آخر تحديث: 22 / 1 / 2025م - 9:52 م

سوريا.. نهاية مرحلة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

بشكل مفاجئ وغير متوقع ترك الرئيس السوري بشار الأسد قصر الشعب، وغادر ربما إلى الأبد إلى العاصمة الروسية موسكو. عنصر المفاجأة ليس في أن الرئيس ترك منصبه، فمثل ذلك ليس غريباً على التاريخ السوري، الذي شهد الكثير من الانقلابات العسكرية، منذ عام 1949، ولكن في الطريقة التي غادر بها، حيث اختار أن يرحل، في لجوء إنساني بروسيا، بعد أن تمكنت عناصر العهد الجديد من الاستيلاء على مدينة حمص، وبدا أن الأمر حسم لصالح الانقلابيين، ومن يقف خلفهم من قوى إقليمية ودولية.

بالتأكيد عندما يرحل أي نظام، سواء بانتهاء صلاحيته، أو بانقلاب عسكري، أو تمكُّن مسلحين من السيطرة على الحكم، يكون هناك خاسرون ورابحون. الخاسرون يبكون على الأطلال، ويتأسون على مرحلة باتت من الماضي، ويواصلون ذكر مآثر النظام، من وجهة نظرهم. أما الرابحون، فيشيطنون المرحلة السابقة برمتها، ولا يرون فيها أي إيجابية ويطغى على تقييمهم غل الماضي وأحقاده.

العقل البارد وحده الذي يستطيع أن يقدم قراءة مختلفة للمرحلة التي مضت. وينبغي في هذا السياق التذكير، بأن حكم حافظ الأسد وابنه قد استمر قرابة أربعة وخمسين عاماً، هي بالتأكيد ليست بالقصيرة وهي الفترة الأكبر في تاريخ سوريا، منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي، بعد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في 17 نيسان/ إبريل عام 1946، اليوم الذي غادر فيه الفرنسيون سوريا، وقد بات عيداً وطنياً، يحتفل به السوريون كل عام.

مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي هي مرحلة الانقلابات العسكرية في سوريا بامتياز، ففي عام 1949 بدأت تلك المرحلة بانقلاب حسني الزعيم، ليتبعه انقلاب سامي الحناوي، ثم انقلاب أديب الشيشكلي. ولم يكن للسوريين في تلك الانقلابات ناقة ولا جمل، وكانت في حقيقتها وجهاً آخر للصراع بين الاستعمار التقليدي، الفرنسي البريطاني، الذي يحاول أن يمنع لفظ أنفاسه الأخيرة، في بلاد الشام عموماً، وبين الاستعمار الجديد، القادم من خلف المحيط ممثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية.

لم يسد في سوريا حكم ديمقراطي، على الطريقة الغربية، إلا في مواسم قصيرة، وكانت مرحلة أحلاف عسكرية، بدأت بمشروع دوايت أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط، ثم حلف بغداد. وكان التهديد لسوريا يأتي من الشمال والشرق، من تركيا والعراق، وبرعاية بريطانية، حيث الضغوط مستمرة عليها للانخراط في تلك الأحلاف.

لكن التطورات اللاحقة، التي شهدتها مصر، وبروز مرحلة النهوض القومي، والتدافع الشعبي، نحو تلك الأحداث، واحتماء ضباط الجيش السوري، والأحزاب القومية بعروبتهم، لتحميهم من الغزو، أدت إلى تحقيق الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا عام 1958.

في 29 أيلول/ سبتمبر 1961 انفصمت الوحدة السورية المصرية، وأياً تكن الأخطاء التي حدثت فيها، فإن ذلك لا ينفي ضلوع أطراف خارجية ساهمت في دعم الضباط الذين قادوا الانفصال. ولم تمض سوى فترة قصيرة، هي قرابة عام ونصف حتى حدث انقلاب الثامن من آذار/ مارس عام 1963، الذي قاده ضباط سوريون، يحملون توجهات قومية، بعثية وناصرية، بينهم حافظ الأسد، لتبدأ بعده صراعات بين الضباط أنفسهم، انتهت بإزاحة زياد الحريري ولؤي الأتاسي وأمين الحافظ ونور الدين الأتاسي، عن سدة الحكم.

في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 استولى حافظ الأسد على السلطة، فيما بات يعرف بالحركة التصحيحية، وبقي رئيساً قرابة ثلاثين عاماً، وتوفي في 17 تموز/ يوليو عام 2000، وتسلم ابنه بشار الحكم من بعده، في ظاهرة توريث لم تشهدها سوريا من قبل. وقد استمر في الحكم حتى الإطاحة به في 8 كانون الأول/ ديسمبر عام 2024، بمعنى أن حكمه استمر أكثر من أربعة وعشرين عاماً.

خاض والده، مع الرئيس المصري أنور السادات، حرب تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973، التي انتهت بتحرير مدينة القنيطرة. وقد فتحت تلك الحرب بوابة الدخول الأمريكي للمنطقة، باعتبارها راعياً لمفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل التي ظلت مجمدة حتى الغزو العراقي للكويت عام 1990، حين دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب لعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط.

واستمرت المفاوضات الماراثونية في عهد الرئيس بيل كلينتون، واقترب السوريون والإسرائيليون من توقيع مسودة اتفاق للسلام، أثناء رئاسة إسحق رابين للحكومة الإسرائيلية، حيث أبلغ رابين الرئيس كلينتون موافقته على تلك المسودة، وقد عرف ذلك التبليغ بوديعة رابين، لكن رابين جرى اغتياله، وتجمدت كل المحاولات للتوصل إلى سلام في المنطقة.

في ظل حكم الأسد، الأب والابن تراجعت الليرة السورية، لكنها تمكنت من الحفاظ على سعر معقول، مقابل الدولار. وحتى ما قبل حوادث 2011، لم يتعد سعر الدولار ال 44 ليرة سورية، لكن الأحداث التي عصفت بالقطر السوري، منذ ذلك الحين، وفرض قانون قيصر، والتدخلات الإقليمية والدولية في البلاد، أودت بالليرة السورية إلى قعر ليس له حد.

تمتع المواطن السوري، طيلة حكم سوريا منذ الاستقلال، بمزايا عديدة، منها التعليم والعلاج المجانيان، والعيش الكريم. كما أن وتيرة التصنيع، وبشكل خاص في مدينة حلب ظلت تسير بوتائر متصاعدة، لكن ذلك تغير كثيراً بعد أحداث عام 2011، التي تسببت في نزوح أكثر من أربعة ملايين سوري إلى الخارج. ويبقى الحكم على تلك الحقبة متروكاً للتاريخ.