الإدارة الأمينة رؤية معاصرة
عندما تتداخل أو تتشابك الأهداف الشخصية مع المصالح المؤسسية كسعي بعض المديرين لتحقيق مكاسب خاصة على حساب المؤسسة، أو عندما تتضارب أو تتناقض المسؤوليات مع الصلاحيات الممنوحة للموظفين كتكليف أحدهم بمهام، أو مسؤوليات كبيرة دون منحه الحق في اتخاذ القرارات للتنفيذ أو التشغيل، أو عندما تتصادم أو تتعارض القيم المعلنة مع السلوكيات الفعلية كأنْ يتم تعيين أو ترقية، أو تكليف بعض الموظفين بناء على علاقات شخصية، أو توصيات من أشخاص ذوي نفوذ داخل أو خارج المؤسسة من دون النظر إلى كفاءاتهم أو أدائهم الفعلي؛ لتصبح المؤسسة كالسفينة في بحر متلاطم الأمواج بلا بوصلة، وتتحول بيئة العمل إلى ساحة صراعات كعواصف داخلية تضج بالفوضى والانقسامات. هنا لا بد من التوقف للحظة، إذ لا مجال للهروب، لطرح التساؤلات الآتية:
ما المقصود بالإدارة الأمينة؟! وما الفرق بينها وبين الإدارة التقليدية؟
وكيف يمكن تحويل قيم النزاهة والشفافية والمساءلة إلى ممارسات يومية فعالة في بيئات العمل المختلفة؟
وما التحديات التي قد تواجه تطبيقها؟
بداية دعونا نتفق على أننا نعيش في زمن أصبحت فيه بيئات العمل المختلفة أكثر تعقيدًا وتشابكًا وتطلبًا؛ ما يفرض علينا تبني ممارسات تواصل أكثر فعالية وانفتاحًا بوصفنا عاملين حيويين، يحدثان فرقًا جوهريًا في تشكيل مستقبل المؤسسات؛ لأن التواصل يمثل النبض الذي يحرِّك العلاقات المهنية، ويعزِّز التفاهم والعمل المشترك. أما عن الانفتاح فيمثِّل الضوء الذي يكشف إمكانيات الإبداع والتطور، وبهاتين الركيزتين الحيويتين يمكن تمهيد الطريق أمام تطبيق الإدارة الأمينة، التي تعني الممارسات الإدارية التي تلتزم بالقيم والمعايير الأخلاقية، مثل الصدق، والعدالة، والشفافية...، في اتخاذ القرارات وتنفيذ العمليات وجعل الشركات أو المؤسسات قادرة على الاستمرار في تحقيق النجاحات على المدى الطويل، في حين الإدارة التقليدية هي أسلوب إداري يركز على الهياكل الثابتة، والإجراءات الروتينية، والتسلسل الهرمي الصارم، مع الاهتمام بالكفاءة التشغيلية، والرقابة المركزية على العمليات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك «شركة نوكيا» التي كانت تهيمن على سوق الهواتف المحمولة سنوات عديدة، ولكنها فقدت مكانتها الريادية بسبب عدم مواكبتها للتطورات التكنولوجية السريعة، وتغيُّر احتياجات المستهلكين؛ ما أدِّى إلى تراجعها أمام منافسيها مثل شركة «آبل» الأمريكية وشركة «سامسونج» الكورية.
ولمعرفة كيف يمكن تحويل قيم النزاهة والشفافية والمساءلة إلى ممارسات يومية فعالة في بيئات العمل المختلفة، لا بد من فهم دور كل قيمة وعلاقتها بالأخرى؛ ولذلك يمكن القول إن النزاهة هي ”التي تحدد السلوك الأخلاقي، والمبادئ الأساسية، والشفافية“. هي ”تلك المبادئ الواضحة، والمرئية للجميع“، بينما المساءلة هي ”التي تضمن أن الجميع ملتزم بهذه المبادئ مع وجود نظام للمراجعة والتصحيح“، وكمثال على ذلك إذا كان الموظفون والإدارة يتحلون بالنزاهة «الالتزام بالمبادئ»، ويعملون بشفافية «وضوح العمليات والقرارات»؛ فإن المساءلة تصبح أداة فعالة لتقييم الأداء، وضمان الالتزام بهذه القيم، وفي تصوري يمكن تحقيق ذلك عبر تبني الخطوات العملية الآتية:
1- صياغة النزاهة والشفافية كقيم أساسية مكتوبة، فقد تعتبر النزاهة والشفافية من أهم القيم التي يجب أن تتبناها أي مؤسسة تسعى للنجاح؛ لأنهما يعززان الثقة بين المؤسسة وجميع الأطراف المرتبطة بها، سواء كانوا عملاء أو موظفين أو شركاء، فهما يوفران بيئة عمل قائمة على الصدق والالتزام بالمبادئ والأخلاق، وعندما تعمل المؤسسة وفق هذه القيم فإنها تبني سمعة قوية، وتجذب المزيد من الاستثمارات. والعكس صحيح أيضًا، ففي حالة غيابهما فإن المؤسسة ستواجه عددًا من التحديات التي تعرقل نجاحها وتقدمها مثل المحسوبية وغياب الشفافية وسوء الإدارة والتسلط الإداري والتمييز...، والذي غالبًا ما يؤدي إلى إضعاف ثقة الموظفين، وتراجع إنتاجيتهم، وتبديد طاقاتهم ومعنوياتهم، فضلًا عن تآكل سمعة المؤسسة وفقدان العملاء وتعطيل الشراكات الإستراتيجية ومواجهة المشاكل القانونية نتيجة الافتقار للوضوح والمصداقية.
2- تبني سياسات وقوانين تمنع الفساد وتعزز الشفافية، فالفساد هو إحدى آفات العصر والذي لا ينحصر في ثقافة أو بلد ما، بل هو ظاهرة موجودة في البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، كما هو موجود في القطاعين العام والخاص، وفي مختلف طبقات المجتمع، فهو يعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويضعف ثقة الأفراد في المؤسسات العامة والخاصة؛ ولذا فإن تبني السياسات والقوانين التي تمنع الفساد وتعزِّز الشفافية أصبح ضرورة ملحة لضمان نزاهة العمليات الإدارية والمالية وتحقيق العدالة والمساواة. ومن أمثلة ذلك ”هيئة الرقابة ومكافحة الفساد“ «نزاهة»، وهي هيئة حكومية مستقلة تأسست في عام 2011 بموجب مرسوم ملكي، تهدف إلى تعزيز النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد المالي والإداري في القطاعين العام والخاص، وتلعب دورًا محوريًّا في تحقيق رؤية المملكة 2030 م، إذ ساهمت هذه الجهود في رفع مستوى الشفافية في العمليات الإدارية والمالية وزيادة ثقة المواطنين والمستثمرين في المؤسسات والشركات المحلية والأجنبية، وفي تطوير الاقتصاد المحلي والوطني. وقد يسأل سائل: لماذا تعد النزاهة ضرورة ملحة لبناء المؤسسات الناجحة؟ والجواب ببساطة وبوضوح لأن النزاهة تعدُّ العمود الفقري للمؤسسات والعامل الحاسم بين النجاح والانهيار، بل هي القاعدة التي تقوم عليها المؤسسات الناجحة والقوية، ومع ذلك قد تنشأ اهتمامات متضاربة بين الأطراف ذات العلاقة بالشركة، إذ تتعارض مصالح المساهمين أو المستثمرين مع توجهات المديرين الذين قد تحركهم نوازع النفس البشرية لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب استقرار المؤسسات وفعاليتها؛ وهنا يأتي دور الدولة في وضع الأنظمة وإصدار التعليمات وتقديم الدعم وتوفير الرعاية اللازمة لقطاع الأعمال «الصناعة والتجارة والخدمات» للنمو المنضبط والمتوازن في ظل المساءلة عن استخدام السلطة، بما يضمن تقليل أي تشعبات أو انحرافات بين الأهداف الشخصية، وحماية مصالح المساهمين أو المستثمرين.
3- توفير قنوات آمنة للتعبير والإبلاغ عن المخالفات. إن إنشاء قنوات آمنة للتعبير عن الآراء وتشجيع الحوار المفتوح ومعالجة المخالفات بفعالية، تشكِّل ركيزة أساسية وخطوة جوهرية نحو تحويل قِيم النزاهة والشفافية إلى ممارسات عملية يومية؛ لأن هذه القنوات تمكِّن الموظفين من مواجهة التحديات بشجاعة، وتعزِّز ثقافة الثقة والمساءلة داخل بيئات العمل وتحسين الأداء المؤسسي، وكمثال على ذلك ما أطلقته وزارة التجارة من خدمة إلكترونية تسمى ”بلاغ عن مخالفات نظام الشركات“، وهي خدمة تتيح للمستفيدين الإبلاغ عن أي ممارسات تشكل مخالفة لنظام الشركات ولائحته التنفيذية.
4- تطبيق الأنظمة الرقمية الحديثة في العمليات الإدارية. لقد ظهرت تطبيقات الأنظمة الرقمية في العمليات الإدارية مع تطور الذكاء الاصطناعي AI» وإنترنت الأشياء IOT»»، فأصبحت جزءًا أساسيًا في تحسين العمليات الإدارية في القطاعات الحكومية والخاصة، ومن الأمثلة على ذلك تطبيق نظام ”أبشر“ لإدارة الخدمات الحكومية إلكترونيًا، ويرتبط هذا التطور بعدة أسباب رئيسة، ويمكن تلخيصها في الآتي:
أولًا: في الحاجة إلى زيادة الكفاءة وتقليل الأخطاء البشرية، فضلًا عن القدرة على تحليل البيانات بسرعة ودقة، لتعزيز عملية اتخاذ القرار.
ثانيًا: إلى التحولات الاقتصادية والتكنولوجية العالمية وزيادة حجم البيانات الإدارية المعقدة، إلا أن هذه البيانات الرقمية أصبحت معرضة في أي وقت من الأوقات للاختراق أو الفقدان نتيجة للهجمات السيبرانية، بالإضافة إلى تزايد أعداد المجرمين الذين يمارسون الأنشطة غير القانونية مثل الاحتيال الإلكتروني والابتزاز والهاكرز وهو «الشخص الخبير والملم بلغة برمجة معينة أو بنظام تشغيل معين».
5- تقديم المكافآت والحوافز، وهي تلك الأدوات أو الوسائل التي تستخدمها الإدارة لتحفيز الأفراد أو المجموعات داخل المنظمة أو المؤسسة من أجل تحسين الأداء وتحقيق الأهداف وزيادة الرضا الوظيفي، وتتنوع ما بين مادية ومعنوية، ومباشرة وغير مباشرة؛ بهدف إثارة دافعية الأفراد من الداخل للعمل، ومثال على ذلك المدير الذي يلاحظ بأن أحد الموظفين في فريقه يملك إمكانيات كبيرة، ولكنه يشعر بالإحباط، أو فقدان الحماس نتيجة عدم التقدير الكافي لجهوده، أو بسبب الصعوبات والتحديات في العمل، فيقوم بعقد جلسة ودية معه يشيد فيها بمهاراته وقدراته، ويوضِّح له مدى أهمية دوره في المشروع، ويمنحه الدعم والمساعدة وفرصة المشاركة و...، " بينما المكافأة هي نتيجة ملموسة تمنح للأفراد مقابل إنجاز معين أو تحقيق هدف معين، بهدف تقديم تقدير مادي أو معنوي، يعزِّز شعور الفرد بقيمته، ويحفِّز دافعيته للعمل لتحقيق مستويات أعلى من الأداء، كأن يعلن المدير أن الفريق الذي يحقق أعلى مبيعات في الشهر سيحصل على مكافأة مالية بعد نهاية الشهر.
6- المراجعة المستمرة للسياسات والإجراءات، وهي أداة لا غنى عنها لتحقيق التفوق والتقدم المؤسسي، فهي التي تحوِّل الجمود إلى حركة والروتين إلى إبداع، وتضمن بقاء المؤسسات أو الشركات في موقع الريادة، بدلًا من الركض خلف التغيرات غير الواقعية، مثل شركة «أرامكو» التي حوَّلت المراجعة المستمرة إلى ثقافة مؤسسية مكَّنتها من تحقيق كفاءة تشغيلية غير مسبوقة، ولتصبح أيقونة عالمية في صناعة النفط والطاقة. أما عن أبرز التحديات التي قد تواجه تحويل قيم النزاهة والشفافية إلى ممارسات يومية في بيئات العمل المختلفة فيمكن تلخيصها في الآتي:
أولًا: في غياب ثقافة النزاهة والشفافية في الشركة.
ثانيًا: في غياب الآليات والوسائل غير الأخلاقية أو غير الشفافة.
ثالثًا: في غياب الحماية الكافية للمبلغين عن الفساد أو المخالفات، إضافة إلى ضعف التزام القيادة العليا بتطبيق هذه القيم وهذه المبادئ.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن الإدارة الأمينة تمثِّل نقلة نوعية في عالم القيادة حيث ترتكز على النزاهة والشفافية لتحويل المبادئ إلى أفعال ملموسة وتبني الثقة، وتعزِّز الإبداع والتعاون، بخلاف الإدارة التقليدية التي غالبًا ما تعتمد على الروتين والجمود.