آخر تحديث: 29 / 1 / 2025م - 10:43 م

فكر كقائد

الدكتور جعفر أحمد قيصوم

المقدمة

يمكننا التأكيد وبدون أي مواربة، أن ليس ثمة فعالية، أو كفاءة إنتاجية مرتفعة إلا بتوفر مديرين مؤهلين، ومتمرسين، وذوي خبرة، يمتلكون رؤية واضحة، وقدرة على التخطيط الاستراتيجي واتخاذ القرارات الحاسمة، وذلك لأن الإدارة الفعالة، تشبه إلى حد كبير دور القلب وتأثير الدماغ في جسم الإنسان، حيث إن ”القلب كمصدر للطاقة والمحرك الأساسي“ والدماغ كمصدر للرؤية والتخطيط " وكما أن القلب والدماغ يعملان معا للحفاظ على حياة وصحة الإنسان، فإن الإدارة الفعالة تتطلب تكاملا بين التخطيط الاستراتيجي، والتنفيذ العملي لضمان تحقيق النجاح والانسجام في المنظمة، ومن هنا تتضح أهمية اختيار المدراء القادة بعناية فائقة، ليكونوا من الذين يرون في كل تحد فرصة، وفي كل فشل درسا، وفي كل نجاح مسؤولية، وهؤلاء هم الذين لا يقتصر دورهم على تنفيذ الأوامر، أو التعليمات، أو تحقيق الأهداف التقليدية، أو المادية، بل يتميزون بفهمهم العميق للواقع، ولدورهم القيادي المؤثر على تحسين الأداء المؤسسي، وعلى إلهام الأفراد، وتحفيزهم لتحقيق الأهداف المشتركة بفعالية، وفي المقابل نجد مديرون يتعاملون مع العمل بروتينية جامدة أو روتينية صارمة، ويفضلون تجنب المجازفة أو التحلي بالجرأة في اتخاذ القرارات المصيرية خوفا من الفشل، أو المخاطرة أو غير ذلك، وينحصر دورهم في تنفيذ المهام اليومية فقط دون التطلع إلى الصورة الأكبر، أو استيعاب الرؤية الشاملة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا.

ما الذي يجعل البعض من المديرين يحققون نجاحًا لا فتا، ويرتقون بموظفيهم أو مؤسساتهم إلى القمة بينما يظل الآخرون عالقين في دوامة التحديات؟!

وما هي الفروق الجوهرية التي تميز هؤلاء القادة الناجحين في التفكير، واتخاذ القرارات الحاسمة عن غيرهم؟!

بالطبع لا يمكننا تقديم إجابات دقيقة، وشافية على هذه الأسئلة المثارة، لأنها ببساطة شديدة تحتاج إلى استضافة خبراء ومتخصصين في القيادة الإدارية، ومدراء من قطاعات متنوعة، ولكن وبصفتي دارسا، ومهتما بالشأن الإداري يمكنني تسليط الضوء على بعض الإضاءات والنقاط التي نراها ضرورية لمعالجة أسباب، وعوامل، القصور في الأداء الإداري، وكما يقال ”تشيخ الشجرة وتذبل من رأسها“ وكذلك هي السمكة المتعفنة لا يظهر تعفنها إلا إذا تمعنا في رأسها "

وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد أولا: من التعرف على معنى الإدارة، ومن هو المدير، وما هو الفرق بين المدير والقائد؟!

الإدارة لغويا: من الفعل يدير بمعنى يدبر، ويوظف، ويستخدم، ويحرك، ويقتصد، ويوجه، ويرشد، ويسوس، واصطلاحًا: أن تعرف بالضبط ماذا تريد، ثم تتأكد من أن الأفراد يؤدون العمل بكفاءة وفعالية وهناك من قال بأنها تعني: عملية تنبؤ، وتخطيط، وتنظيم، ومن ثم القيام بالتوجيه والمراقبة، وهناك من قال بأنها وظيفة تنفيذ الأشياء عن طريق الآخرين، وهناك من قال بأنها تعني: علم وفن إدارة الموارد لتحقيق الأهداف المطلوبة. وقد عرفها المفكر د ر كر بالعمود الفقري لأي مؤسسة، ووظيفتها إدارة العمل بنجاح، وتفوق، وهناك العديد من المدارس الفكرية والعملية التي قدمت مفاهيم، وتعريفات للإدارة، ولكن الأركان والقواعد واحدة.

أما عمن هو المدير: فهو مصطلح يشير إلى الشخص الذي يدير الأفراد والموارد في أحد الأقسام أو الإدارات أو الفروع أو المواقع.... أو حتى الذي يدير المنظمة ككل. كصنع القرارات، والتخطيط، والتنظيم، والتوجيه والرقابة، وذلك لتحقيق أهداف المنظمة، أما تعريف المدير من وجهة نظر المفكر بيتر د ر كر فهو: الشخص الذي يعطي الحياة للمؤسسة، وهو عقلها المحرك، وقلبها النابض، إذ إنه يفكر بالعمل ومن ثم يدفع العاملين بالطاقة للتنفيذ.

أما عن الدور: فهو مجموعة الأنشطة، والسلوكيات، التي يتوقعها الآخرون من الفرد المسؤول كممارس لهذا الدور، ولكل فرد منا مجموعة من الأدوار في الحياة والعمل، منها دوره كابن، وزوج، وأب... ودوره كموظف أو زميل أو رئيس أو مدير.

ثانيًا: العوامل، والأسباب التي تميز المديرين الناجحين عن غيرهم.

غالبا ما يبدأ الإنسان بتقليد من حوله، وخاصة والديه، ومع الأيام ينتقل إلى تقليد أصحابه وأساتذته ثم إلى تقليد الرموز الذين تعرف عليهم، وعلى رأسهم القادة ”كما تثبت الدراسات“ وذلك لما تتركه هذه الرموز أو النجوم أو القادة من بصمات على من يقتدي بها، ويقلدها، وقد نرى هذا جليا وواضحًا في الصعيد الاجتماعي وبالخصوص على فئة الشباب والفتيات، وبالانتقال إلى بيئة الأعمال نرى أن هذه الحالة بارزة، وواضحة بين المدراء، والموظفين فالمدير الذي يتمتع بصفات القيادة الملهمة، والقدرة على أن يكون قدوة حسنة غالبا ما يحقق نجاحًا لا فتاو يثير الإعجاب، ويلهم الآخرين للسير على خطاه، ويتمكن من دفع عجلة الإنتاج إلى الأمام، ويحقق نقلة نوعية في الأداء والابتكار، ومن أبرز هذه العوامل أو الأسباب.

1 - المعاملة بالعدل والاحترام: فالقائد ينبغي أن يكون عادلا في معاملته للجميع باحترام، فالمرؤوسون سرعان ما يكتشفون أن كان قائدهم يعاملهم بنفس الطريقة التي يعامل بها أعضاء مجلس الإدارة أم لا، وإن كانت نتيجة هذه الملاحظة بـ ”لا“ فإنه بذلك " أي القائد المدير سيقتل فيهم روح التحفيز، وأغلب الظن أن هذا النمط من القادة سيجد نفسه بعد فترة معزول عن مرؤوسيه.

2 - البدء في العمل الجاد: فالقائد المدير يعلم مرؤوسيه العمل المطلوب إنجازه، ثم يفسح لهم المجال لإنجاز ذلك العمل، فأصحاب البصيرة النافذة لا ينتقدون مرؤوسيهم إذا ما ارتكبوا هفوة، وعندما تظهر مشكلة ما، فإنهم يشيرون لها فقط تاركين أمر مراجعتها لهؤلاء المرؤوسين.

3 - الإنكار الصادق للذات: فالقائد المدير يوظف الذين يفوقونه في الذكاء، ويطلق هالة من التعظيم للأعمال التي تنجزها أيادي المرؤوسين الموهوبة، وحتى يكون المدير قائدًا جيدا، عليه أن يكون مطمئنًا بما فيه الكفاية لتوظيف الأفضل، وأن يعمل جهد طاقته على الاحتفاظ بالنوابغ ضمن فريقه، حتى لو كان هذا يعني أن هؤلاء النوابغ سيتبوؤون يومًا مناصب أعلى من منصب المدير القائد الذي كفلهم بالرعاية والإرشاد.

4 - التطوير المستدام للأداء: فالقائد المدير يطور أداء مرؤوسيه لكي يكونوا قادرين على أداء عمل المدير، وهذا يعتبر مكسبًا مزدوجًا للطرفين ”المدير والمرؤوسين“ لأن القادة الكبار يعلمون علم اليقين أنهم قد يفقدون فرصا كبيرة إذا لم يكن هناك في مجموعة العمل من له القدرة على القيام بأعمال المدير، وفي الوقت نفسه يعتبر تدريب لمرؤوسيه، وإعدادهم للأعمال الكبيرة، وهي أكبر وسيلة للتحفيز الفعال.

5 - القدرة على استشراف المستقبل: ويعني أن يكون للمدير القائد القدرة على التنبؤ بالتغيرات والاتجاهات المستقبلية بناء على تحليل دقيق للبيانات، والمعلومات الحالية، ورؤية شاملة للمستقبل.

6 - أن يمتلك الحماس نحو تحقيق التميز في الأداء، والسرعة المتقدمة في التنفيذ، والكراهية العميقة للبيروقراطية، وأن يتمتع بالثقة المتناهية بشخصه، وقدرته على التأثير في اتباعه مع التحلي بروح الانفتاح للحوار، وقبول الرأي الآخر بكل تواضع، والأخذ به إن تبين صلاحه، دون أي اعتبار لكون ذلك الرأي قد صدر ممن هو أقل منه رتبة في الوظيفة.

ثالثًا: أن ما ينبغي على المدير معرفته لمواكبة التغيير، والنجاح، والتميز، والريادة، وتطبيق استراتيجية التفكير كقائد في المؤسسة الخاصة أو العامة، والنهوض بها وبالموظفين، لتحقيق الأهداف المرجوة، هو التفريق بين المدير والقائد، فالأول يستمد سلطته وصلاحياته من وظيفته، أي من التنظيم الرسمي القائم، فهو مفروض على المجموعة، ومن هذا المنطلق يصدر تعليماته وتوجيهاته، وأوامره، التي يقول إنها ملزمة وإلا تعرض من يخالفها إلى الجزاء المنصوص عليه من اللائحة التنظيمية، بينما الثاني فيستمد سلطاته، وصلاحياته، ومن ثم قوته من المجموعة نفسها ومن ارتباطها، وولائها، والتفافها حوله، واحترامها له، ثم من اعترافها واقتناعها به، ومن ثم ثقتها فيه، وهذا طبعا لا يأتي بالفرض أو من فراغ.

رابعا: أن للقيادة جانبان هما جانب مادي عملي يتمثل في شخصية القائد، وقدرته، ومعرفته، وخبرته سواء في العمل أو في أصول الإدارة، أو في أصول القيادة، وجانب آخر سلوكي يتمثل في سلوكياته من ناحية، وأسلوبه ومنهجه في العمل مع العاملين، ورؤيته، ونظرته، وإحساسه بمشاعرهم، ثم قدرته في التأثير عليهم.

خامسًا: أن للمدير عدة أدوار وليس دورا واحدًا كما هو ممارس، فمن ناحية له دوره الإداري الذي يتمثل في المساهمة في العملية الإدارية من تخطيط، وتنظيم، وتوجيه، ورقابة، ومن ناحية أخرى له دوره، الذي يمثل فيه المنشأة في مواقف معينة سواء أمام العاملين، أو أمام الغير، ومن ناحية ثالثة له دوره في تكوين العلاقات الأفقية مع نظرائه في المنشأة، أو خارجها، ومن ناحية رابعة له دوره في الإعلام كمتابع، وناشر أو، ناقل للمعلومات بل ومتحدثًا رسميًا، كما له دوره في اتخاذ القرارات في مجالات متعددة، وكمعالج للمشاكل، وحل الخلافات داخليًا وخارجيًا، وكذلك دوره في ترشيد استخدام الموارد البشرية، والمادية والتطوير والإضافة وإذا اتسم المدراء بهذه الأدوار كما تعرضنا لها بشيء من التفاصيل، فإنهم بلا شك سيحققون أهدافهم المرجوة وسيساهمون في الرقي بالموظفين، والمؤسسة ككل.

وفي نهاية المطاف يمكننا أن نقول إن الفكر القيادي هو القدرة على تجاوز المألوف، وكسر قيود التقليد وصياغة مستقبل مختلف، فالمدير المميز أو المدير القائد هو: الذي يفكر كقائد، ويدرك أن النجاح ليس وجهة بل رحلة مستمرة، نحو التميز في عالم يتحرك بسرعة الضوء، ولذا فقد آن الأوان أيها المدير، لتفكر كقائد، يملك الشجاعة، والابتكار، والقدرة على التكيف، والتغيير، وليس كمجرد مدير أو مسؤول في مؤسسة أيا كان نوعها، وشتان ما بين المدير القائد والمدير.