آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 1:40 ص

إيّاكَ والمستشْرف

عبد الله فيصل آل ربح * صحيفة الشرق الأوسط

بتطور وسائل التواصل الاجتماعي، دخل كثير من المفردات على الاستخدام اليومي لمنصات التواصل، وانتقل ذلك تدريجياً للاستعمال اليومي في حواراتنا الشفاهية. ومن أبرز تلك المفردات التي لم يكمل عمرها العقد مفردة «الاستشراف» بمشتقاتها القريبة. ولا يقصد بالاستشراف هنا تلك العملية التي تقوم على «التحليل والدراسة المتعمقة للاتجاهات والمؤشرات المستقبلية لفهم المستقبل المتوقع وتوقع التغيرات المحتملة. يعتمد استشراف المستقبل على مجموعة متنوعة من العوامل التي تؤثر في تطور السياسة والاقتصاد والمجتمع».

إن المعنى الجديد الذي يتم تداوله هنا يعني «تصنّع الشرف، أو الادعاء بالانتساب للشرف». وهذا من أثر تحوّل المفردة العامية إلى الاستخدام الكتابي، وتطبيعها في عين القارئ لتتحول لمفردة عادية مفهومة المعنى. ولعل هذا ما نلاحظه اليوم في منصات التواصل الاجتماعي، فكلمات مثل «استشرف، يستشرف، واستشراف» تنصرف لسوقِ الشرف على الآخرين للوهلة الأولى، سابقة المعنى المتداول أكاديمياً، أي يعني الدراسة الموضوعية للماضي والحاضر من أجل التنبؤ بالمستقبل. «Futurology»

في اللغة العربية، مفردة «استشراف» مصدر سداسي للفعل استشرف على وزن استفعل. وصيغة استفعل بالميزان الصرفي تحتمل سبعة معانٍ لن نطيل في شرحها، وسنكتفي بما يتعلق بمفردة «استشرف» التي تفيد تحول الفاعل من شيء إلى آخر. لذلك فإن الشخص الذي يوصف بأنه «يستشرف» إنما يحاول أن ينتقل من صفته الأصلية «عديم الشرف» لصفة جديدة «الشرف». فالمعنى سلبي ومهين بامتياز.

في حياتنا اليومية نقابل كثيراً من «المستشرفين» الذين همهم انتقاد الآخرين بشكل رخيص من خلال مطالبتهم بأن يكونوا مثاليين. فعندما يسيء لك شخص ما وتشعر بالألم، وتعبر عن ألمك من مُصابك، يأتيك المستشرف مطالباً إياك أن تغفر فوراً ومن دون تفكير، بل سيتهمك بكل الأوصاف اللاأخلاقية في حال ترددت في الاستجابة له! والأمثلة كثيرة، على غرار: فلان صدم سيارتك، ويجب عليك أن تسامحه ولا تطالبه بتصليحها؛ وفلان شتمك على رؤوس الأشهاد، ولكن عليك عندما تقابله في المرة المقبلة أن تبادر للترحيب به،... إلخ.

عندما نتأمل واقع المستشرف، سنجد أنه غالباً لا يلتزم بما ينصحك به، بل على الأغلب هو شخص شديد العناد وصعب المراس وقليل التسامح حتى مع الأخطاء الصغيرة. إذن لماذا يطالبك بأن تكون مثالياً في الوقت الذي لا يلتزم بالحد الأدنى؟

إن التحليل الواقعي لمثل تلك الشخصيات يقوم على نقطة شديدة الحساسية، وهي النظرة الفوقية للآخرين. فالمستشرف يضع نفسه في موقع من يحق له توزيع شهادات الاعتراف بالحُسن والقبح السلوكي، ومقياسه الوحيد ذائقته ومزاجه. فإذا انصعت لتوجيهاته فأنت شخص جيد، وإذا رفضت فأنت شخص سيئ.

ويزيد الأمر سوءاً عندما تجد أنه حتى في حال مواجهته بأنه لا يمارس المثالية التي يطالب الآخرين بها، سيبرر لك بأن الحالة التي مرت به تختلف تماماً عن الحالة التي مرّت بك، وأنه لا يود أن يخبرك بالتفاصيل لأسباب لا تعد ولا تحصى. ففي المحصلة، هو يطالب الآخرين بأن يكونوا ملائكة، في الوقت الذي يسمح لنفسه بممارسة بشريته.

المستشرفون حولنا اليوم في كل مكان. ففي السياسة، تجدهم ينتقدون الانفتاح الاجتماعي في بلد مجاور، بينما يمارسون في بلادهم ما لا يمارسه أهل لاس فيغاس في فنادقهم وصالات قمارهم. وفي العائلة، تجد قريبك الذي يمتهن استغلال الجميع وابتزازهم عاطفياً، في الوقت الذي لا يتسامح مع من يشكك في أنه قلل من شأنه. وفي الدين، تجد من يحاسب خلق الله على ما يعتقد أنه من المخالفات الشرعية على المستوى الشخصي، بينما يأكل أموال الناس ويخوض في أعراضهم بالباطل.

ختاماً، المستشرف يمارس النفاق بأرخص صوره معتمداً على ضعف شخصية المُستشْرَف عليه. بالتالي، فإنه خيارك، إن قبلت بالسلطة المعنوية لذلك الشخص، فإنك تقبل بأن ترتب أمورك لترضي شخصاً لا يحترمك ويرى فيك مجرد وسيلة لتحقيق إنجاز معنوي لذاته.

دكتوراة علم اجتماع جامعة Michigan State University