شيء عن والدي
حدثني صديقي عن والده الذي عشق مزرعته، فصار يرسم الحياة في جذور الأرض، بل كان يزرع في قلبها حكايات الحب والأمل...
عاد أبي إلى المنزل كعادته بعد غروب الشمس ولكنه لم يكن كعادته مبتسماً، بل كانت الكآبة تعلو وجهه.. سألته والدتي: ما بك يا عزيزي هل تعاني من شيء ما، هل ماتت بقرة أخرى؟!
نظر إليها وبقي صامتاً للحظات ثم أطلق زفيراً ينم عن حزن عميق بداخله...
كررت السؤال: أخبرني ما بك.. هل تعطلت السيارة مرة أخرى؟!
نظر إليها وعيناه مغرورقتان بالدموع... ولكنه لم ينطق بكلمة...
ما بك... إنك بصمتك ودموعك تكاد تقتلني... قل لي ما بك...
خرجت من غرفتي ورأيت والدي وقد لفه الحزن: ما بك يا والدي... تحدث...
بعد إلحاح منا...
قال والدي: لقد طلب مني مغادرة المزرعة...
كان الخبر صاعقاً... بقينا للحظات صامتين..
ذهبت والدتي وأحضرت له كأس ما وقالت: لا عليك يا عزيزي... لقد قمت بواجبك طوال هذه السنوات...
نظر إليهم وقال: ولكنها أرضي... أعشقها... كيف لي العيش بعيداً عنها...
نظرت إليه وعادت بي الذكريات عندما ذهبنا معه لتلك الأرض، لقد كانت أرضاً قاسية، كأنها صفحة منسية من كتاب الطبيعة.
نعم كان المكان بالأمس قطعة أرض عادية، ترقد في صمت تحت شمس الحياة اليومية. ترابها متشقق، وأشجارها القليلة تنحني بتعب، وكأنها تتوسل السماء لقطرة ماء.
قلت لأبي كيف يمكننا إعمار هذه الأرض؟!
نظر إلينا مبتسماً وقال: ألا تسمعوا صوتها الحزين.. ألا تسمعوا استغاثتها.. إنني أسمعها جيدا هذه الأرض تحمل في جوفها وعدًا خفيًا، كأنها تنتظر لمسة حبٍّ من يد الإنسان، لتعيد إليها الأمل وتجعلها مسرحًا للحياة من جديد.
نظرنا لبعضنا البعض وقلت هكذا هو أبي إنه متفائل.. ولا شك أنه سيحول هذه الأرض إلى جنة غناء.
نعم لقد بدأ والدي العمل بصبر العاشق. حرث التربة كمن يعزف لحنًا قديمًا، وسقاها كأنها عطشى لحنان طويل. اقتلع تلك الأعشاب المتطفلة وبدأ يغرس البذور بيدين تعرفان معنى الحياة، وأحاطها بعينين تشعان بالأمل.
ومع مرور الفصول، تغير المشهد. تحولت الأرض إلى جنة غناء، ترتدي رداءً أخضرا يرقص مع الرياح.
في تلك الجنة، كان يجلس والدي، يتأمل ما صنعته يداه وقلبه. لم يكن يرى مجرد مزرعة، بل قصيدة كتبتها الطبيعة، خطها بإصراره وشغفه. كانت الأرض تتنفس بفضل حلمه، وكان حلمه يتحقق في كل ورقة شجر، في كل نسمة هواء، وفي كل زهرة تفتح عينيها على هذا العالم.
تذكرت هذه الأحداث.. جلست بجانب والدي وقلت له: لا عليك يا أبي.. لقد كنت إنساناً مباركاً.. رغم تقدمك بالعمر إلا أنك استطعت أن تحيي تلك الأرض...
نظر إلي والدي وقال بصوت حزين عندما هممت بالخروج من المزرعة وبعد ذلك الحوار الذي دار بيني وبين مالك الأرض.. نظرت للمزرعة فرأيت تلك النخيل الباسقة وكأنها تفقد شيئاً ما.. صارت الرياح تإنّ وهي تمر بين سعفاتها، كأنها تحمل حزناً خفيًا. وأشجار اللوز تساقطت أوراقها بهدوء، وكأنها دموع صامتة. حتى الطيور التي كانت تشدو فوق أغصانها صمتت، وكأنها فقدت لحنها الأثير.
مسح والدي عينيه.. وقال الحمد لله الذي ”جَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ“
بعدها أيقنت أن والدي لم يكن مجرد فلاحا، بل كان روحا لتلك الأرض وحياة لتلك الأشجار.
أيقنت أن والدي هو نموذج لذلك الإنسان الذي يحمل البركة معه أينما حل، ووجوده خير ورزق، اللهم احفظه وامدد في عمره.
بين كلّ تجعيدة وتجعيدة من وجه أبي قصة وذكريات تستحق أن تكتب بماء الذهب.