آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 2:26 ص

سوريا لا تقبل القسمة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

سوريا المجد والتاريخ وقلبها النابض دمشق، حاضرة الأمويين، والمركز الذي تم فيه صك أول عملة عربية، وفيها تأسست أول دواوين الدولة العربية. من دمشق بدأ عصر الفتوح، لتصل دولة الخلافة إلى بوابات الصين شرقاً، وإسبانيا غرباً. وكما كانت دمشق نقطة البداية في تأسيس الحضارة العربية، فإن لمدينة حلب الشهباء، دور تاريخي مهم، حيث كانت المنطلق للفتوحات العربية، في الشمال. وكان لها الفضل في دخول أقوام كبيرة، من قوميات مختلفة لدار الإسلام، من ضمنها تركيا وألبانيا، وصربيا، وعدد آخر من البلدان.

ولسوريا ولبنان، دور كبير، في تأسيس حركة اليقظة العربية، التي ناضلت ضد الاستبداد العثماني، والمطالبة في المراحل الأولى بالحكم الذاتي، ولتتطور لاحقاً تلك المطالبات بالكفاح من أجل تحقيق الاستقلال التام.

وعلى هذا الطريق تقدمت قوافل الشهداء، المطالبة بالحقوق القومية والثقافية لبلاد الشام. وكان الأبرز بين تلك القوافل، شهداء أيار/ مايو عام 1916، في دمشق واللاذقية وبيروت. وكان بينهم عدد كبير من زعماء النهضة العربية، أدباء ومفكرين وباحثين، أحالهم جمال باشا السفاح، لمحاكم عرفية، قضت بتنفيذ حكم الإعدام بحقهم.

وكان الأبرز في قائمة شهداء أيار/ مايو 1916 الشيخ عبد الحميد الزهراوي، من حمص، والأمير عمر الجزائري حفيد الشهيد المقاوم للاستعمار الفرنسي في الجزائر الشيخ عبد القادر الجزائري، وعبد الغني العريسي، والشيخ أحمد طبارة، وشكري العسلي، وشفيق مؤيد العظم، وعشرات غيرهم.

وحين انتهت الحرب العالمية الأولى، غدت سوريا من أكثر المتضررين بنتائجها، وبشكل خاص اتفاقية سايكس - بيكو التي قسمت المشرق العربي بين الفرنسيين والبريطانيين. وكان الجانب الأخطر، في نتائج الحرب، هو إعلان وعد بلفور بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.

وفيما بين الحربين تأسست للمرة الأولى، في تاريخ العرب المعاصر، الحركة القومية، وما كان لها أن تجد بيئة مثالية لهذا التأسيس أكثر من بلاد الشام، وكان حسم موضوع الهوية من أهم القضايا التي واجهها الجدل الفكري في هذه الحركة.

ومرة أخرى، ما كان لهذا الجدل الفكري بالوطن العربي، أن يجد بيئة ملائمة له أفضل من بلاد الشام. فمنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، غدت الشام، كما أشرنا، مركزاً لحركة اليقظة العربية، التي تصدت للاحتلال التركي، ومنه انطلقت حركة القومية العربية، التي كتب عنها جورج أنطونيوس في كتابة حركة اليقظة العربية. وقد هيأت تلك الحركة للثورة العربية التي أطلقها الشريف حسين من مكة المكرمة.

في الشام أيضاً، حدثت أول مواجهة عربية مشرقية مع الاستعمار الفرنسي في معركة ميسلون، بقيادة يوسف العظمة. وفيما بين الحربين تمكنت سوريا من إنجاز استقلالها وألحقت الهزيمة بالفرنسيين، لتبدأ مرحلة التكالب على بلاد الشام، بين الغربيين أنفسهم، في مرحلة كانت الولايات المتحدة الأمريكية، تتهيأ فيها لإزاحة الاستعمار التقليدي والحلول محله.

عبّرت مرحلة التكالب عن ذاتها، في شكل انقلابات عسكرية، أبطالها ضباط عسكريون سوريون، لكنهم للأسف كانوا ينفذون أجندات خارجية واشتهر من بينهم حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي. وقد نجحت سوريا في تجاوز تلك الصدمة وحافظت على استقلالها وعروبتها.

ومرت أخرى، كان التهديد من تركيا، في إجبار سوريا على الالتحاق بحلف بغداد الذي وقفت خلفه أمريكا وبريطانيا، وضم باكستان وإيران والعراق وتركيا، ولجأت سوريا إلى عروبتها لتنقذها من الهجمة التركية، فعملت على تحقيق الوحدة الاندماجية مع مصر. وقد عبرت قبل ذلك أثناء العدوان الثلاثي: البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر عام 1956، عن تضامن ضد العدوان، قلّ له نظير، عبرت عنه إذاعة دمشق، في جملة باتت معروفة لكل متابع للتاريخ السوري: «هنا القاهرة من دمشق».

وبقيت سوريا حرة أبية محافظة على عهدها، رافضة مختلف الضغوط التي مورست بحقها لكي تنضم إلى حلف بغداد، الذي تشكل أثناء استعار الحرب الباردة. وللأسف كانت الضغوط على سوريا، في الخمسينات، كما هي اليوم تمارس مباشرة من تركيا، لإلحاقها بالمعسكر الغربي.

سوريا حالياً، وبغض النظر عن كل الادعاءات تدفع ثمن مواقفها التاريخية، وهذا القول ليس قولنا، بل تهديد معلن وصريح من قبل نتنياهو والولايات المتحدة.

ليس الهدف من هذا الحديث الدفاع عن نظام سياسي يحكم سوريا منذ عدة عقود، بل هو دفاع عن تاريخ سوريا ووحدتها، والتصدي لمن يعمل على تفتيتها. والقول بتبعية حلب لتركيا، من قبل البرلمان التركي، ليس بحاجة إلى دليل، رغم أن أعضاء البرلمان التركي يدركون أن حلب مدينة سورية، أبى من أبى، وستظل كذلك بحكم الجغرافيا والتاريخ.

وستظل سوريا عربية وموحدة رغم كل محاولات التفتيت، وستظل بيضة القبان، التي تحكم التوازنات الإقليمية والدولية، ولن يكون في مصلحة السوريين، ولا الأتراك، ولا القوى الدولية، العبث بها، وجعلها مقراً لتصفية الحسابات بين الغرماء، لأن انفلات الأوضاع فيها يعني، انفلات الإرهاب في المنطقة بأسرها، وهو ما لا يمكن أن يقبل به عاقل. والقول بإرهابية المارقين، لا يحتاج إلى دليل، فقد كشفت عنهم بالأسماء سجلات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

سوريا أرض عربية لا تقبل القسمة.