آخر تحديث: 27 / 12 / 2024م - 1:40 ص

القبضة الحديدية

عبد الباري الدخيل *

"ستراها يومًا ويأكلك الندم
وتقول: كانت لي"

عندما استيقظ طلب فنجان قهوة، سألته: ألن تأكل شيئًا؟

اعتذر بأن رأسه يوجعه، وأن الصداع يفتك به.

قلت: لا بد أنك رأيت كابوسًا مفزعًا.

قال: وما أدراك؟

قلت: واضح من حالتك.

قال: وكيف كانت حالتي؟

قلت: كنت تهذي كثيرًا، وقد ذكرت اسم سيدة لم تكن أمك ولا زوجتك.

ثم التفت إلى ورقةٍ سقطت من يده عندما دخل البيت، تصفحها، وابتسم ثم بكى.

**

كُتب في الورقة:

ماذا لو أرخينا أيدينا قليلًا، وجعلناها مبسوطة؟

إعلم يا فؤادي أن الذي يبقى مع الحب خير ممن تبقيه القبضة الحديدية.

قلت لها اذهبي، أنا باقٍ هنا، لا أنتظرك لكن يعجبني المكان، لن أغادر.. فقط سأغيب، ولكن اعلمي أن بابي مفتوح حتى لو كان قلبي مقفلًا.

وقفتْ متحيرة، أنا أعلم سرّ حيرتها، فهي تقف بين ناري الحب واللا حب، بين هنا وهناك، بين الماضي والحاضر، وصعب عليها أن تختار، وقد مهدت لها أن تذهب ولن أغضب أو أحزن.

وحدي جلست متألمًا.. مهشمًا.. مهزومًا، أمشي وأتعثر دون أن يلتفت لسقوطي أحد.

وحيدًا بين جداري القوة والضعف بكيت، كانت الذكرى تقوّيني فأنهض، ثم تعود لتكسرني فأقع، وتبتسم فأبتسم، ثم تتجهم فأبكي.

وحدها كانت رفيقة وحدتي، تعدّ نبض قلبي، تعرف ما أريد قبل أن أتحدث، تستشعر حزني فتسألني: ”فيك شي؟“

وتقرأ فرحي من صمتي فتكتب: ”دوم فرحان يا رب“.

إذًا لماذا رحلت؟

أنا السبب

نعم

أنا السبب

ف ”الحب كالحرب للشجعان فقط“.

**

أحضر له عامل الفندق القهوة وقطعة كعك، وقد عرضت عليه شرب الماء أولًا أو الكعكة فرفض، ومدَّ يده وأخذ فنجان القهوة.

كان يشرب القهوة باستمتاع مغمضًا عينيه، ويصدر أصواتًا مع كل رشفة، وكنت أنظر إليه، والهواء يتسلل من النافذة ويحرك الستارة بهدوء، فنحن في الدور الثالث والثلاثين.

انتظرته يتكلم لكنه خيّب ظني وظل صامتًا، كنت أظن أنه يفكر في كلامي عمّا جرى بالأمس لكنه كان يفكر في مسألة أعمق.

وضع الفنجان من يده وانطلق كالسهم نحو النافذة، لكنّ إرادة الله خيبت أمله، فقد داس على حذائه وسقط وأصيب رأسه بجرحٍ احتاج إلى نقله للمستشفى.

في غرفة الطوارئ بعد أن أنهت الممرضة ضمادة جرحه، قال: لقد ذهب الصداع، ثم ضحك، وعاد يتألم.

**

أود لو أن نجتمع في مكان واحد، ليلة واحدة، أحدثها بكل ما أشعر به، بالمرارات التي عشتها، بالليالي الطوال، بالشقاء، بالحزن، وبالألم الذي خلفه رحيلها.

ليتني أعانقها وأبكي حتى تغتسل روحي من آلامها، وترجع لسكونها.

لا أرغب بإزعاجك، لكنني أجد الأمور تصبح أفضل عندما أتحدث إليك، أنا مهووس بابتسامتها الجميلة، وبحديثها الأنيق، وحضورها الطاغي.

قلت: لست منزعجًا، لكنني متأسف لتقصيري في تقديم أي مساعدة، ”فالعين بصيرة واليد قصيرة“.

قال: أكتفي منك بصبرك على سماع هذياني.

ثم أكمل: كنت سأموت، لكن القدر تغير.

قلت: ”مو يومك“.

قال: الموت حق.

قلت: لن نموت قبل يومنا.

قال: هل قرأت ما قاله جوستاين غاردر في عالم صوفي: ”الميزة الوحيدة اللازمة لكي يصبح الإنسان فيلسوفًا جيدًا هي قدرته على الدهشة… فالفيلسوف هو إنسان لم يستطع يومًا أن يتعود على العالم والعالم يظل بالنسبة له غير قابل للتفسير وهكذا يمتلك الأطفال والفلاسفة صفة كبيرة مشتركة“.??

قلت: الدهشة معنا في كل لحظة، حاضرة ممتعة أو ذكريات جميلة.

قال: لماذا لا تموت الذكريات؟ وإن اختفت بعض الوقت عادت لتهاجمنا، كأنها تنتقم من نسياننا لها.

سألته: هل تتذكر يوم أن كنّا نتجول بين أشجار الغابة القريبة من جبل «كلمنجاروا»؟

أكمل: لماذا تتلذذ الذكريات بأن تسكب جحيمها على رؤوس الساهرين؟

وأكملت أنا أيضًا: كانت أشجار الموز كثيرة ومتنوعة، وكذلك أشجار البابايا وجوز الهند، الذي كنّا نشرب ماءه «Coconuts»، أظن أنهم يسمونه بالسواحيلة «مدافو».

أضاف: الذكريات لا تزال تطرق أبوابنا وتطل من النوافذ، حتى هذا الجرح، فيه طعم الذكريات، ينقصه أغنية ميّادة «أنا أنا أنا بعشأك».

قلت: أما بحيرة «فكتوريا» فقصة أخرى، كنتُ خائفًا من ركوب القارب، وأنت تهزأ بي، وترفض أن تتركني في الساحل، جولة لمدة ساعة أو أكثر، أنا خائف من ارتفاع الأمواج وأنت تضحك، وتسأل الأفريقي عن التماسيح، كنتَ مصرًا أن تصور التمساح، وأنا أحثكم على سرعة العودة.

قال: ما زال وجهها كالقناديل يضيء ليالي الذكريات، يزورني في المنام، فأظل في السرير لعلها تعود.

قلت: ماذا أفعل لأجلك؟

قال: اتركني أموت.

قلت: عندما نعود للفندق سأترك لك النافذة مفتوحة.

قال: لا.. دعنا نغير الفندق.. احجز لنا فندقًا أرضيًا كالذي سكنّاه في موانزا.

قلت: وماذا ستصنع هناك؟

قال: سأطلب منهم غرفة بها أربع مرايات، لتكون معي في كل جهة.