آخر تحديث: 13 / 1 / 2025م - 4:21 م

أضحَكَني حدَّ الحُزن

عقيل المسكين *

ذات يومٍ كنتُ أتمشّى - على سبيل الرياضة - في طرقاتِ وأزقّة ديرة سيهات، لأننا في تلك السنين الخوالي لا توجد لدينا ميادين أو مضامير خاصة برياضة المشي، وكنتُ حينها صبيًّا يافعاً في أواخر السنة السادسة الابتدائية عام 1399 هـ، فكنت أبدأ رياضتي من البوابة الشرقية للبيت العود مُتوجهاً في الطريق إلى الجهة الشمالية حيث بيت جارنا الأحسائي العمّ شَرار، وهو من معارف والدي ويمتهن النجارة - وأظنه من أوائل إخواننا الأعزاء الأحسائيين الذين عاشوا معنا في بلدتنا سيهات - في حي الديرة - مُنطلقاً للعمل كنجار في المنطقة بشكل عام؛ ومنزله ملاصق لمنزلنا؛ ثم بيت عائلة الحكيم، ثم شارع الملك فيصل مُتّجهاً في نفس الطريق إلى الشرق حتى آخر الشارع قبل المنعطف للشارع العام جنوباً، وأواصل المشي في ذلك الطريق حتى أدخل في شارع السوق المتّجه للغرب وأواصل المشي وعلى يساري سوق الخضرة، وسوق الدواجن واللحوم، ثم المخبز العصري، ثم الطريق المؤدي إلى مكتبَتَي الحاج باقر النصر، ومكتبة حبيب الخرداوي، وأواصل طريقي حيث تتراص البيوت والبنايات على الجانبين، حتى وصلت في شارع السوق نفسه إلى عمارتنا حيث منجرة المِسكِين، وهذا الشارع هو الذي يفصل القسم الشمالي من حي الديرة والذي فيه عمارتنا، والقِسم الجنوبي والذي فيه مسجد الإمام الرضا ، حيث يتقابل هذان المبنيان وجهاً لوجه، وأنا كنت مُتوجهًا في الشارع للجهة الغربية، وإذا بي أسمع صِياحًا وصُراخًا من عائلةٍ يسكنون في الدور الأول من إحدى البنايات، وكان الشارع وقتئذٍ شبه خالٍ إلا من بعض السيارات المارّة في الطريق، وبعض المشاة القادمين من الجهة الشرقية حيث متجر الحاج خليفة شاخور، ومتجر بيت هلال، ومبانٍ أخرى ثم المخبز العصري وسوق اللحوم والدواجن، وسوق الخضرة، وإذا بي أسمع صوتَ جلبةٍ وخروج بعض الأطفال من الباب الجانبي لهذه البناية بسرعةٍ كأنهم يهربون من حريقةٍ ما؛ وهم خائفون مرتعبون، فعلمت أن ثمة «هوشة» بل معركة بين زوج وزوجته ومن شدّةِ حرارتها خرج الأطفال لتجنّب الإصابة بشررها أو ألسنتها الحامية، بينما أسمع في الأثناء قاموسًا من الشتائم والسُّباب والسخرية والاستهزاء من قبل الزوجة توجهها كصواريخ - أرض أرض - لِزوجها، إضافة إلى قاموسٍ آخر من الشتائم والسُّباب والسخرية والاستهزاء من قبل الزوج - كأنها مضادات لتلك الصواريخ - يُوجهها لزوجتهِ على سبيل الردّ الدّفاعي السريع، وتتنوّع نبرات الصُّراخ حسب الحالة الانفعاليّة لكلٍّ منهما، فتارة تعلو علوًّا كبيرًا؛ وتارة تنخفض انخفاضًا يسيرًا، وما إن تنخفض لهنيئةٍ من الوقت حتى ترتفع مرّة أخرى، كأنك تسمع صاعقة قريبة بدويّها المزعج من جهة، ومن جهة أخرى تسمع صاعقة بعيدة بدويّها غير المزعج من جهة أخرى، والمؤلم هو مصاحبة هذا الصراخ بتوتّراتٍ من القلقِ، وتذبذباتٍ من الحسرة والأسى القديم، وهذا دليل على كونِ هذه المشاكل لها مسبّقات من سنواتٍ عِدّة، ورواسب قد أكل عليها الدهرُ وشرب - كما يقولون -، ويصاحب كلَّ ذلك صوت الضرب الذي يأتي مرة كأصوات العِصي وهي تقرَع الظهور، وتارة تأتي كأصوات الزُّجاج المهشّم على عظامٍ تكاد أن تتحطّم، أو كأصوات الأواني وهي تسقط غاضبة على بعضها البعض من رفوف مُهترئة.

وقد تعجبت أيّما تعجب من هذه المعركة العظيمة، لأنني بكلِّ صراحة لأول مرّة أشاهد معركة بين زوجين بهذه الطريقة، وإن كنت قد حضرت بعض المعارك العائلية لبعض الأقارب، وكذلك بعض العوائل من الديرة وغيرها ولكنها أخفّ بكثير من هذه المعركة؛ لأن هذه المعركة قد وصل صداها لعموم الشّارع المجاور، حتى دخل بعض أقارب هذه العائلة واستطاعوا بعد اللتيا والتي وبعد الكثير من التفاهمات والمفاوضات السيطرة على الوضع وإسكات الزوجين، حتى تهدأ الأمور بينهما، وقد سكنت المعركة وتم عقد اتفاقية الهدنة وعاد كلّ معسكر إلى معسكرِهِ، وتم سحب كافة الأسلحة من عصي قد ”تشلَّخت“، وأحذية قد تمزّقت وأوانٍ معدنية قد انطَعَجَتْ، وكؤوس زجاجية قد تكسَّرت، وعاد الأطفال إلى شقّتهم في تلك العمارة، ورجع الذين كانوا يقفون بالخارج على ذلك الرصيف المقابل إلى حال سبيلهم، حيث تبدّد دخان هذه المعركة وانتهت بالصلح بين المعسكرين ليعمّ السلام من جديد.

هذه الذّكرى كنت أقصّها على أحد أقاربنا - ولم أذكر له اسم الزّوج أو لقبهم العائلي، لأنني من الأساس لا أعرفه ولا أعرف اسم عائلته - وقريبُنا هذا الذي جلستُ معه - سَأكَنّيهِ هنا بأبي إبراهيم - وهو يسكن مع عائلته في بُوَيتٍ بالحيّ المقابل للشارع العام المواجه لحيّ الطابوق، والذي تمّت تسميته فيما بعد بحيّ النُّور، وكان معه في هذا البُويت الصغير أخوه الأكبر - وسأكَنّيه هنا بأبي ناصر - في قسم آخرٍ منه مع زوجَتَيهِ وعيالهما، ويعرف أبو إبراهيم بكونهِ من اللطفاء الفَكِهين، بل إن كلّ جلساتهِ مع الأقارب والأصدقاء والجيران وعامة المجتمع تتميز بالجلسات الضاحكة والمضحكة، فهو لا يخلو من نكتةٍ أو طرفةٍ في أيّ نقاش أو محاورةٍ أو مجادلة مع أيٍّ كان، حتى لو كان ذلك النقاش أو المحاورة أو الجدال جادًّا فإنه يطعّمه أو يزرّقهُ بشيء أو بأشياءٍ من القصص المدهشة والحكايات المبهجة والمواقف المحرجة، بل لم يسلم حتى الزملاء من المدراء والموظفين الذين عملوا معه في الدائرة التي كان يعمل فيها بشركة أرامكو حتى قُبيل تقاعده منها؛ فإنهم لا يملكون إلا أن تأخذهم حالات من الضحك إلى حدّ القهقهة من هذه الشخصية المرحة، وقد عرفوه بأنه صاحب مقالب لا تنتهي إلا بموجات من انفِراج الأساريرِ بِكَمٍّ هائل من الابتسامات والضحكات، وقد رَوى عنه الكثير من زملاء عمله العديد من القصص والحكايات والمواقف الكوميدية التي لا يملّ السامع من الاستماع إليها، وفي تلك الجلسة التي جمعتني به في مجلسهم الصغير بِبُويتهم؛ وبعد أن قصصت عليه تلك المعركة بين الزوجين - في القصة الآنفة الذكر -، إذا به يَخرج من المجلس، ثم يعود في أقل من دقيقة واحدةٍ حاملاً مُسجّلاً أظنّهُ من نوع ”سوني“ - متوسط الحجم -، وبيده ”شريط كاسيت“ «Cassette tape»، ثم يجلس بجانبي ويقوم بوضع الشريط في المسجّل، ويضغط على زر التشغيل، وإذا بي أسمع أصواتَ معركةٍ أخرى بين زوجين تختلف عن تلك المعركة الأولى التي قصصتُها على أبي إبراهيم، هذه المعركة فيها الكثير من التفاصيل المختلفة، لأن الزوجة اتّبعت استراتيجيات خاصة بها وهي تختلف عن تلك الزوجة في القصة الأولى، وكذلك الزوج في هذه المعركة المسجّلة اتّبع استراتيجيات أخرى تختلف عن استراتيجيات ذلك الزوج في القصة السابقة، والمواضيع التي تُنووِلت في المعركة الثانية تختلف عن تلك المواضيع في المعركة سالفة الذكر، حتى قواميس الشتائم والسّباب هنا اختلفت عن تلك، وهنا توسعت مداركي وأضفت إلى معلوماتي آفاقاً أخرى لم أكن مُلمًّا بها من قبل في هذا المجال من الموروثات الاجتماعية المعيبة - في هذا الميدان من المعارك الزوجية -، وأنا ألاحظ كلّ ذلك كنت أبتسم وأخفي الكثير من الحزن خلف هذه الابتسامة، وكأنني أستحضر قول الشاعر:

ضحِكنا وكانَ الضّحك منّا سفاهةً

وحقّ لِسكّانِ البَسيطةِ أنْ يبكوا

بينما أبو إبراهيم أوقف المسجّل وهو يضحك، فقلت له:

- لقد أضحكتني بهذا التسجيل بنفس المقدار الذي أحزنتني فيه، لماذا قمت بذلك بالضبط، ألا يعتبر ذلك من أسرار البيوت التي يجب كتمانها بل نسيانها وكأنها لم تكن؟!.

فقال وهو يخفي ابتسامةً ساخرة:

- هذه ليست المرة الأولى، فهما في معركة مستمرة منذ أن تزوج أخي أبو ناصر زوجته الثانية وهو مُعسكِرٌ في ميدان القتال مع زوجتهِ الأولى، وهي قصة كلّ بيت في المجتمع الذي يقترن فيه الزوج بثانية أو ثالثة أو رابعة، وما نسمعه من القصص والحكايات عن ذلك كثيرة جداً، ويمكن أن تملأ عدّة مجلدات لو تصدّى لها من يُحصيها بمجملِها وأسبابها ومقدماتها وتفاصيلها وحيثياتها ونتائجها النهائية.

فقلت له، وأنا متفاعل مع حديثه ووجهة نظره:

- نعم هذا صحيح، ومن النادر أن نجد الانسجام المطلوب من الطرفين، حيث الرضا بما قسم الله من قبل الزوجات، اثنتان كانتا أم ثلاث أم أربع، والإيمان بالتشريع الإسلامي في جواز تعدد الزوجات؛ ولكن لن أقول هنا «النادر بحكم العدم» ففي المجتمع العديد من القصص عن زوجات متفهّمات للشرع وللظروف الاجتماعية، وما تفرضه بعض الأوضاع الأسرية.

أبو إبراهيم، اقتنع بما أقول إلا أنه أحب أن يرسم الابتسامة على وجهي من خلال هذا التسجيل الذي أطلعني عليه، وقد نصحته - على صغر سني - في آخر الجلسة بأن يمسحه ولا يعرضه على أيّ كان، فإن البيوت أسرار، فابتسم وهو لا يزال يخفي خلف ابتسامته شيئاً ما لا أعلم ما هو!.

وما قاله أبو إبراهيم هذا يذكرني بما كتبه نجيب محفوظ في روايته «بين القصرين» إذْ تطرق ضمنياً إلى استبداد أحمد عبد الجواد في تعامله مع عائلته، وهذا خطأ كبير فقائد العائلة - وهو الأب - عندما يلجأ إلى هذا الأسلوب قد يسبب حدوث النتائج الوخيمة للزوجة ولأولادها، كما حدث للزوجة الأولى عندما طلّقها، فقد تأثرت الزوجة الأولى أيّما تأثر من جرّاء سوء معاملتهِ معها إلى حدّ الضرب، فلم تتحمله وحصل بينهما الطلاق، وكان الضحية ابنهما الذي لم يرَ أمه لمدة تزيد عن عشر سنوات من عمره وعاش محروماً من حنان أمه، بل وانحرف سلوكياً من خلال هذا الفراغ في حياته وكذلك سوء تعامل والده معهُ ومع بقية إخوته وأخواته، أما أمه المطلقة فقد عاشت الحرمان من ابنها وارتمت في عيشةٍ مُرَّة حيث ضاقت من خلالها الكثير من الضنك فهي تنتقل بهذه الحالة من زوج إلى زوج ولم يستقر لها قرار أسري ولا عائلي، إلى أن ماتت بحسرتها وهي ملأى بالهمّ والتعاسة، وأمثال هذه القصة هي نتيجة لسوء التفاهم بين الزوجين، وميل الرجل إلى القسوة في التعامل معه زوجته.

وفي ختام تلك الجلسة التي جمعتني بقريبنا أبي إبراهيم ودّعته على أملِ لقاء آخر، وقد التقيت به عدة مرات في بيتنا العود بالديرة أثناء زياراته لوالدي، ولم تتغير نظرتي عن هذا الرجل الضاحك، كما التقيت به في بيتنا بحي الفردوس أيام دراستي في المرحلة المتوسطة حتى 1403 هـ، وكنت ألتقي به في سنوات لاحقة أيضاً بمناسبات العائلة، إضافة إلى قيامه بزيارة بيت الوالد في حي النمر حتى السنوات الأخيرة من عمره ”رحمه الله“.

ووجدته كما هو طيب القلب، صافي السريرة، لا تفارقه الابتسامة، أما النكتة والطرفة فهي حاضرة دائماً أثناء الجلوس معه، وكلّ مَنْ يتحلّق حوله في ذلك المجلس إنما يفعلون ذلك انتظاراً لتلك النكات الجميلة والطرائف البديعة التي تجري على لسانه؛ حيث ينجذب لها كلّ من حضر، وآخر مرة شاهدته فيها - قبل وفاته رحمه الله - كان في السنوات التي اندثرت المسجلات وأصبحت كما نقول «دقة قديمة»، وتلاشت أشرطة الكاسيت، وصاروا ينقلون محتوياتها على أسطوانات السي دي «CD»؛ أو الميموري «Flash memory»، ودخل علينا ما دخل من أنظمة الصوتيات وأجهزة التسجيل الصوتي الحديثة، وبرامج الكمبيوتر، وما يتبعها من تطبيقات مُتطورة في هذا المجال، إلا أنه لم يذكر لي قصة ذلك التسجيل القديم، الذي أتمنى أن يكون قد طواه الزمن، وضيعته