القرآن والعترة سبقت ابن الهيثم بأربعة قرون
للعين أسرار كثيرة وتكلمت فيها الأديان والكتب السماوية، وكثير من الفلاسفة والعلماء حتى يومنا هذا، وكان محور الحديث ومعظم الأسئلة تدور حول السؤال الأهم.
ومن خلال ما قدمت من محاضرات متنوعة جمعتها في كتاب الألوان في القرآن ومفردات فيه مثل النور والضوء والبصر والنظر والرؤية والليل والنهار وكذلك ما ورد من آيات حول العين وغيرها، استنتجت هذا البحث الذي يؤكد أن القرآن وروايات العترة سبقت ابن الهيثم في نظرياته في الرؤية والبصر.
ظل العلماء والفلاسفة السابقون في ما مضى، عدة قرون يعتقدون أن الإنسان بعينه يرى الأشياء وذلك لصدور طاقة من عين الإنسان أو الحيوان فتقع على الأشياء فيرى ما حوله ويتعرف عليها.
سادت وقتها نظريتان كبيرتان حول كيفية الرؤية في العصور القديمة. النظرية الأولى نظرية الانبعاثات، التي أيدها مفكرون مثل إقليدس وبطليموس، والتي تفترض أن الإبصار يتم اعتمادًا على أشعة الضوء المنبعثة من العين، أما النظرية الثانية نظرية الولوج التي أيدها أرسطو وأتباعه، والتي تفترض دخول الضوء للعين بصور فيزيائية.
وظلت هذه الفكرة طاغية على كثير من المفكرين وأصحاب الرأي حتى جاء ابن الهيثم عالم البصريات المتوفي سنة 430 هـ، عارض ابن الهيثم كون عملية الرؤية تحدث عن طريق الأشعة المنبعثة من العين، أو دخول الضوء للعين من خلال صور فيزيائية، وعلل ذلك بأن الشعاع لا يمكن أن ينطلق من العينين ويصل إلى النجوم البعيدة في لحظة بمجرد أن نفتح أعيننا، كما عارض الاعتقاد السائد بأن العين قد تجرح إذا نظرنا إلى ضوء شديد السطوع، كما أنه أول من فسر وشرح كيفية رؤية الأشياء عند سقوط الضوء مسببا الإحساس برؤيتها.
وقد صحح ابن الهيثم بعض المفاهيم السائدة في ذلك الوقت اعتمادًا على نظريات أرسطو وبطليموس وإقليدس، فأثبت ابن الهيثم حقيقة أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين، وليس العكس كما كان يعتقد في تلك الفترة، وإليه تنسب مبادئ اختراع الكاميرا، وهو أول من شرّح العين تشريحًا كاملاً ووضح وظائف أعضائها، وهو أول من درس التأثيرات والعوامل النفسية للإبصار.
ووضع الأسس التي أكد بها أن العين ترى الأشياء في النور والضياء وفي الظلام لا ترى شيئاً أو ترى رؤيا ضعيفة بدون الألوان.
وأوضح ذلك في كتابه «المناظر» ووضع النظريات البصرية وتوصل إلى رسم تشريحي لعين الإنسان وشرح كيفية الرؤية وأمور كثيرة رياضية وفيزيائية لانعكاس الضوء وانكساره وغيره الذي لا مجال لشرحه لئلا يخرجنا بحثنا حول العين.
وبرهنها العالم الرياضي ابن الهيثم فكان أول من كتب تفسيراً لظاهرة الغرفة المظلمة وإمكانية تطبيقها عملياً وأثبت أن الرؤية تتم من انعكاس الضوء عن الأجسام ومروره من خلال حدقة العين ليرسم خيالاً معكوساً على جدار العين الخلفي «شبكية العين، على النحو الذي تشير إليه المخطوطات.»
فهل أن القرآن سبق ابن الهيثم بأربعة قرون على أقل تقدير؟
فما هي الآيات القرآنية التي ذكرت هذه النظرية. ليتأمل القارئ فيها.
وبالرجوع إلى الفلاسفة القدماء الذين قالوا إن العين هي سبب الرؤية فقط لأن بها طاقة تصدر منها على الأشياء.
فلو أن العين هي مصدر الرؤية فقط بدون الضوء، فلماذا تكون عين الإنسان محدودة البصر، فالبعيد لا تراه والصغير تحتاج إلى مكبر لرؤيته، والعين تمرض وتحتاج إلى علاج فليست العين هي فقط مصدر الرؤية، فإذا استنطقنا بعض الآيات القرآنية نرى أن القرآن بين أمور لا بد أن نتوقف عندها وهي ما يتعرض للعين والبصر من أمور تصدر من الطبيعة كالبرق مثلا وغيره.
قال تعالى: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور: آية 43]
﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: آية 20]
﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ [القيامة: آية 7]
﴿يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الرعد: آية 12]
لذلك سأقسم البحث إلى قسمين ليتضح المقصود أكثر:
أولا: آيات وروايات فيها تلميح. ثانيا آيات وروايات فيها تصريح:
وهناك كثير من الرواة عن العترة الطاهرة تتمثل في أدعية وزيارات ومقولات لهم .
ترادف الليل والنهار بالشمس والقمر في كثير من الآيات، مما يوضح أن الشمس تضيء فيظهر النهار ونرى الأشياء والمخلوقات وأن الليل ظلامه بسبب عدم وجود الشمس بل أن القمر مرآة للشمس وعاكس لها، ومن خلال ذلك عرف المسلمون الكسوف والخسوف وذلك من تعامد الشمس والقمر والكرة الأرضية قال تعالى:
﴿خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [الأنبياء: آية 33]
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصلت: آية 37]
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ [الأنبياء: آية 33]
﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ [يس: آية 40].
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [إبراهيم: آية 33]
حدد القرآن الكريم مصادر النور والإضاءة في ذلك الزمن: في مجموعة آيات وهي: الشمس والقمر والنجوم والشهب والنار القبس.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ [يونس: آية 5]
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: آية 16].
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ [الأعراف: آية 54] ذكر مصادر الإضاءة متقاربة.
﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾ [الحج: آية 18]
﴿السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾ [الجن: آية 8]
﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ [طه: آية 10]
وأن مصادر النور دليلا على المعرفة في الظلام والليل يدل على السكون.
﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ [الفرقان: آية 45] الشمس مصدر الإضاءة وهي دليل على أفول الليل ومعرفة الأشياء.
﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ [الأنعام: آية 96]
يذكر الخالق أن في النهار الضوء وفي الليل ظلام، ولماذا هذا التعبير فالناس تعرف ذلك ولكن ليبين أن في ضوء النهار حركة وفي الليل سكون، كل ذلك أسبابه في ضوء النهار معرفة الأشياء والتحرك والمعاش، أما الليل سكن أي سكون وعدم الحركة وسببه الظلام.
حتى إن الخالق ذكر أدوات الإضاءة ومنها الزيت: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: آية 35]
وتطرق القرآن الكريم بالتلميح حول الرؤية بالنهار أو بالضوء، وعدم الرؤية في الظلام أو الليل أو بدون النور مما يدلل على أن استكمال النظم والقوانين البيئية في الأكوان والكواكب البعيدة والقريبة قال تعالى:
1- ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًاْ﴾ [يونس: آية 27]
الليل ظلام أي لا يوجد إبصار. لأن الإبصار يأتي مع النهار وفيه الضوء.
2- ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: آية 32]
3- ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: آية 8]
في الآيتين تلميح إلى أن إطفاء النور له رمزية مجازية، وإذا كان النور بمعنى الوضوح والصفاء والبينة النقية، فقد اقترن الإطفاء بالنور، ولماذا يريدون الإطفاء، حيث شبه النور بالوضوح والصفاء والكافرون يريد إطفاء هذا الوضوح حتى لا يراه الناس فيمشوا على هداه.
4- ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس: آية 5].
5- «جعل الشمس ضياء والقمر نورا» في الآيتين بين الخالق جل وعلا وأخبر نبيه بأنه جعل وخلق الشمس هي من تضيء في النهار وأما القمر فهو سطوع لها أي هو كالمرآة يعكس ضوء الشمس. «هو الذي جعل الشمس تشع الضوء وتنشره، وجعل القمر نورًا يُسْتَنار به».
6- ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: آية 16].
لأن النجم ذكره الله في آية سابقة أنه من مصادر الإضاءة التي يرى بها الناس الطرق أو يتعرف بها على الأوقات أو الجهات الأصلية والفرعية.
7- وهو مع ذلك من جملة المسخرات للإنسان ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ [إبراهيم: آية 33]. ومن هنا جاء التسخير الإلهي بتقسيم الزمان إلى ليل ونهار أو ظلمة ونور مما ليس للمخلوق فيه أي تدبير أو تقدير.
وهناك كثير من الأدعية والروايات التي توضح هذا المجال، وليس للحصر بل وقفت على بعضها الذي يبين ويوضح ما أدعيه:
من دعاء السمات: الدعاء الذي يقرأ في آخر ساعة من نهار الجمعة.
«وَبِكَلِمَتِكَ الَّتِي خَلَقْتَ بِها السَّماواتِ وَالأَرْضِ،... وخلقت بِها الظُّلْمَةَ وَجَعَلْتَها لَيْلاً، وَجَعَلْتَ اللَّيْلَ سَكَناً، وَخَلَقْتَ بِها النُّورَ وَجَعَلْتَهُ نَهاراً، وَجَعَلْتَ النَّهارَ نُشُوراً مُبْصِراً، وَخَلَقْتَ بِها الشَّمْسَ وَجَعَلْتَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَخَلَقْتَ بِها القَمَرَ وَجَعَلْتَ القَمَرَ نُوراً، وَخَلَقْتَ بِها الكَواكِبَ وَجَعَلْتَها نُجُوماً وَبُرُوجاً، وَمَصابِيحَ وَزِينَةً وَرُجُوماً، وَجَعَلْتَ لَها مَشارِقَ وَمَغارِبَ».
بكلمة الله كن فيكون خلق الأكوان ومنها خلق الظلمة وجعلها في الليل وبقدرته التامة جعل الليل ليكون سكنا للناس وبعض المخلوقات، وبكلمته كذلك خلق النور وجعله نهارا، ومرادنا أن الله خلق النهار للإبصار وجعله للنشورا والبحث في خلق الله كطلب الرزق وغيره.
ثم عدد أنواع من الضياء الذي خلقه لبني آدم كالشمس التي جعلها ضياء والقمر للنور والكواكب والنجوم وجعلها مصابيح وزينة في السماء.
ومن دعاء آخر يقرأ أسبوعيا في يوم الخميس:
«الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ اللَّيْلَ مُظْلِماً بِقُدْرَتِهِ، وَجاءَ بِالنَّهارِ مُبْصِراً بِرَحْمَتِهِ، وَكَسانِي ضِيائَهُ وَأَنا فِي نِعْمَتِهِ.» في هذا الدعاء يستفيد المتأمل إلى أن بالنهار نبصر الأشياء، ثم أردف الضياء بعده مباشرة ليعين أن الرؤية بالضياء، يتضح من خلال كلمات الدعاء أن الليل ظلام وفي الظلام لا يرى الإنسان شيئاً، من ذلك تبين لنا أن نظرية علماء المسلمين والتي وضحها ابن الهيثم أن الضياء هو مصدر الرؤية وليست العين.
ومن دعاء الحسين في عرفة:
«فَأَسْأَلُكَ يا ربّ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَكشفت بِهِ الظُّلُمَاتُ».
مع أن في كلمات الدعاء كثيراً من المجاز إلا أنه ينبئ أن بالنور تشرق الأرض وحتى السماوات، وأن بالنور تنكشف الظلمة وتزاح وينظر الناس إلى كل شيء بوضوح.
ومن دعاء يقرأ في ليلة الجمعة: «وَ جَلَالِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلَأَ نُورُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ» يستفاد من الدعاء أن النور يملأ كل شيء ويوضحه للناس، أما الخالق لا يرى بأي شيء مادي.
التصريح بأن الرؤية بالإضاءة وليس بالعين فقط:
1- ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام: آية 122].
﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِْ﴾
هذا التلميح بأن المشي يكون لأن النور موجود، وبدون النور لا يستطيع الإنسان المشي والتحرك لان بالنور يرى الاشياء وليس بالعين فقط، فالعين موجودة أثناء النور والظلام ولكنها تعمل في أثناء النور وفي الظلام لا تعمل.
﴿مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾
أما في الظلمات لا يستطيع الخروج، وذلك لان الظلمات لا تؤدي إلى طريق يمشي فيه، ومن الحقائق أن في النهار يبصر الناس أما الليل فليس له إبصار بل محو أي لاوجود للرؤية، وذلك طبعا لوجود الضوء في النهار.
2- ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: آية 17].
يتضح في الآية الكريمة أن في الظلمات لا يبصر الإنسان لأن نورهم أذهبه الله وأطفأه، وأن استيقاد النار يولد الإضاءة لما حولها، وكلمة ما حولها أي أن الأشياء حول النار تُرى، والدليل أن في الظلمة لا يبصر الناس، كما ورد في الآية الكريمة.
جاء في تفسير ابن كثير: «فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي.»
وفي هذه الآية دلائل على أن الضوء مصدر الرؤية في المثال باستضاءة النار، فيرى ما حوله، وفي الظلام لا يبصر الإنسان، وفي هذه الآية تدل على أن النار تضيء، واستخدمها الإنسان في الإنارة في الظلام، وتدل كذلك على أن النور هو مصدر الرؤيا وأن الظلمة أساس في عدم الرؤية.
3- ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾ [البقرة: آية 20] من هذه الآيات: - يتبين أن العين مع ما تملك من وسائلها المعرفية وما بها من مجسات وطرق وعناصر للرؤية فهي لا تكفي، بل تحتاج إلى إضاءة لتبصر الأشياء والأجسام، أي أن أصل الرؤية هي في الاضاءة التي تسقط على الاجسام وبدورها تنعكس على مجسات العين فتستطيع رؤية الأشياء.
تبين الآية أنه عندما يضيئ لهم البرق فإنهم يمشون، وإذا أظلم قاموا أو وقفوا لأنهم لا يستطيعوا المشي في الظلام، وهذا دليل على أن النور والضياء هو مصدر الرؤية وليس العين.
4- ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: آية 28].
ذكر الحق سبحانه بكل تأكيد أنه جعل للناس نورا يمشون به، وهذا التصريح من أكمل الجوانب وضوحا أن النور سبب المشي والسعي في سبل الحياة.
5- ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ [الأنعام: آية 96].
فالليل لا ترى الأشياء بسبب الظلام فجعل الليل سكن واسترخاء وراحة واستعداد للعمل في النهار، أما النهار عبر عنه بالمعاش أي طلب الرزق بالحركة والسعي.
6- ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: آية 12].
أوضحت الآية بما لا يدع مجال للشك أن الله جل جلاله محى الليل من الإبصار لقوله جعلنا النهار مبصرأ.
7- ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: آية 12]. أقول: قد لا يكون ثمة كبير فائدة من هذا الإختلاف في الليل والنهار فالوجود كله داخل تحت ظرف الزمان بماضيه وحاضره ومستقبله الذي جعله الخالق سبحانه آية من آياته الكونية، جعل النهار مبصرا للخلق ومحو الليل من الرؤية هما آية من آيات الله المعجزة التكوينية، والتي يؤكد فيها أن البصر هو في ضوء النهار وليس في الليل الممحو من الضوء.
8- ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: 71- 72].
وفي هذا من الحكم ما لا يخفى على ذي بصيرة، وإثبات لوجود الله في التصرف بالكون، لكن ما يهمنا هو أن الليل ما يسكنون فيه وليس فيه ضياء وأن النهار هو ما يبصرون فيه بالضوء.
ومن التراث الإسلامي ما يعضد ما رأيناه لسبق القرآن والأدعية والزيارات لنظرية ابن الهيثم بأربعة قرون عن طريقة رؤية الأشياء.
من الأدعية والزيارات:
وعن الإمام علي من المناجاة الشعبانية -: إلهي…وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور.
بالتأكيد أن العبارات المجازية تنبئ عن مدلول حقيقي أو طبيعي، فهنا الأبصار تنير بالضياء ثم بالنور تخرق الأبصار أي النظر حجب النور.
أما في زيارة الحجة: «يا نُورَ اللهِ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ المُهتَدُونَ» من الواضح في هذه الزيارة النور يهتدي به المهتدون، كما يهتدي بالنور البصر في رؤية الأشياء، ولا يستبعد المجاز.
من دعاء ليلة الجمعة: «وَجَلَالِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلَأَ نُورُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ».
وجاء في دعاء يوم الخميس: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ اللَّيْلَ مُظْلِماً بِقُدْرَتِهِ، وَجاءَ بِالنَّهارِ مُبْصِراً بِرَحْمَتِهِ، وَكَسانِي ضِيائَهُ وَأَنا فِي نِعْمَتِهِ» الليل ظلام وفي النهار الإبصار لأن فيه الضياء.
من الأحاديث النبوية للرسول ص: يروي أبو الدرداء وعن محمد بن عيسى عن سليمان الجعفري قال: كنا عند أبي الحسن فقال: «اتَّقُوا فِراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنورِ اللهِ» يتضح من خلال الحديث وإن كان المعنى مجازي إلا أن التشبيه بالنور لينظر المؤمن، فمن الواضح أن النور علامة مميزة لكشف الأمور والنور للرؤية والنظر.
ومن دعاء كميل : «وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَضَاءَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ». وفي هذا الدعاء يبين أن بالنور يضيء كل شيء حتى تتوضح وتبين كل حاجة، وليس الله محتاجاً لحاسة البصر.
من زيارة الحجة ليوم الجمعة «يا نُورَ اللهِ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ المُهتَدُونَ» الدعاء مجاز وما يهمنا للبحث أن بالنور يتضح كل شيء فيهتدي الناس لما يريدون أن يروه.
زيارة النبي الأعظم ص «كَشَفْتَ عَنْ نُورِ وِلادَتِهِ ظُلَمَ الأَسْتارِ، وَأَلْبَسْتَ حَرَمَكَ بِهِ حُلَلَ الأَنْوارِ» الدعاء مجازي وما يهمنا أن بالنور يكشف الظلمة والأستار التي ليس بها نور.
الإمام علي يصف خلق الخفاش:
ومن حكم الإمام علي في نهج البلاغة: «ومن لطائف صنعته وعجائب خلقته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي، وكيف عشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها، وتتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها.
وردعها بتلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها. وأكنها في مكامنها عن الذهاب في بلجائ تلاقها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على حداقها. وجاعلة الليل سراجا تستدل به في التماس أرزاقها. فلا يرد أبصارها إسداف ظلمته، ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دجنته. فإذا ألقت الشمس قناعها، وبدت أوضاح نهارها»
سجلت ما يقترن به البحث من كلام أمير المؤمنين في وصفه الدقيق لأحد المخلوقات المجهولة في ذلك الوقت، فهل الإمام مختص في علم الأحياء، وما يهمنا هو أن الضياء الباسط لكل شيء وهو الرائي للأشياء، أما الظلام فهو القابض لكل حي، وأن الخفافيش تستضيء بنور الشمس المضيئة وتهتدي به في حياتها وبيئتها، وبلاغة الإمام أكثر وضوحا مما نريد.
في هذا البحث أريد أن تعرف الأجيال القادمة أن تقدم علماء المسلمين بمفاهيم كثيرة أثبتوا جدارتهم العلمية فيها وقد سبقوا الغرب بعدة قرون في العلوم والفنون وفي كثير من المعارف.
ومن أهم مصادر هذا التقدم والازدهار هو كتاب الله الحكيم الذي أنزله على رسوله الكريم وفيه من المعارف الكثيرة التي لم يكتشفها العلم إلى الآن وليس هو مختص في العلوم أو الاختراعات بل في من العلوم الإنسانية التي تفيد البشرية قاطبة، وفي القرآن علوم ومعارف كل وقت نكتشف مخازنها وأسراها.
الأهم من ذلك ما أدري الرسول الأكرم بهذا الإنجازات العبقرية للذين لا يرون أن القرآن من عند الله.
وفي القرآن معجزات متعددة هذه من ضمنها، وتفتخر الأمة الإسلامية بأن العالم ابن الهيثم له اختراعات كثيرة في مجالات الرؤية والبصريات، وأحدث قوانين تدرس في معظم الجامعات العالمية.
وفي هذا البحث ما يثبت أن القرآن سبقه في عدة مجالات وبعدة نواحي ويعتقد أنه استفاد منها.
«ومن أهم هذه النظريات لابن الهيثم أنه أثبت أن ليس للعين هالة وطاقة تصدرها على الأشياء المراد رؤيتها كما قال بها العلماء الذين سبقوه، بل أن العين ترى الأشياء عن طريق الضوء الذي بدوره يصدر طاقة أو ذبذبات على الأشياء وتنعكس الذبذبات على العين فتستطيع أن تراها، وبدون الضوء لا تستطيع العين أن تبصر الأشياء، ومع الضوء الخافت ترى الأشياء ولكن بدون ألوانها بل بالظل والنور أي أسود وأبيض فقط.»
وبعد قراءات كثيرة للبحث ومنها تصفحي لكتاب ابن الهيثم «المناظر» لم ألحظ إشارات للآيات القرآنية التي تعزز أن رؤية الأشياء تكون بأسباب الضوء.
ومن خلال تأملات في آيات القرآن الكريم اتضح بما لا شك فيه أن للقرآن تلميحات وتوضيحات متعددة أكد بها أن سبب رؤية العين السليمة للموجودات هو الضوء وليس العين مَن تصدر الطاقة.