سافر ففي الأسفار.. قصص وعبر
قيل إن في الأسفار فوائد كثيرة، ومن أشهر الأقوال في السفر، المنسوبة للإمام الشافعي، سافر ففي الأسفار خمس فوائد، تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد، وهناك من قال أن الفوائد سبع وبعضهم قال ثمان والبعض الآخر أكثر أو أقل، وهناك من تحدث عن أهمية السفر، فقال على المرء أن يسافر في كل ستة أشهر مرة واحدة، وباعتقادي أن الأمر منوط بالشخص نفسه أكثر من أي شيء آخر.
أقول هذا الكلام انطلاقا من سفرة أخيرة إلى روسيا، كانت سفرة متميزة عن بقية السفرات، ومليئة بالكثير من الفوائد والعبر، روسيا بلد الحضارة والتاريخ الممتد مئات السنين، فكان لا بد من المرور على مبانيها وتراثها الضخم الضارب في القدم، وماذا تعني تلك الآثار وماذا تمثل، نحن نقول دائما أن من ليس له ماض فليس له مستقبل، وبالتالي هذه الآثار بالنسبة لأصحابها تمثل ماضِ مشرقاً ضخماً ونبراس يضيءُ لهم الطريق يستمدون منها الدافع القوي، للانطلاق في الحياة وخلق مستقبل مشرق، تماما كما يمثل التشجيع للاعبين من دافع نحو الفوز، فالتاريخ المجيد هو دافع معنوي نحو خلق مستقبل واعد والتواجد في مقدمة الأمم، وبالنسبة للآخرين فإن هذا التاريخ الموغل في القدم يُرينا كيف كان واقع هذه الأمم قبل قرون خلت، وبالتالي يدفعنا لمسايرة الركب ولنعلم أن هناك عالما آخر متطوراً سبقنا بقرون، ولزاما علينا أن نستفيد منه، ومن تاريخه ونأخذ من ذلك التاريخ العبر حتى نصل إلى أعلى المراتب، وقد شدني في السرد التاريخي للمرشد أثناء الرحلة إلى موسكو، أنهم يذكرون تاريخهم بدون رتوش أو مكياج، ولا يخجلون من بعض صفحاته السيئة باعتبارها جزءًا من التاريخ، وهذا ما أوصلهم إلى هذه القوة الحالية، فمن التاريخ الإمبراطوري مرورا بالشيوعية وحتى العصر الحديث، وإذا كانت حضارة بلد ما هي أغلى ما يملكه ذلك البلد وهي قيمة لا تقدر بثمن، فهناك أمور أخرى مهمة، تميز هذا البلد، وتجعلها قبلة للسياح، ألا وهي الأمان، فقد حدثونا قبل الوصول إلى موسكو أن البلد آمنة، حتى أثناء الليل، ومن الحوادث التي عاصرناها في سفرتنا، كانت فقدان حقيبة يد بما فيها من مال وبطاقات في إحدى الجولات السياحية وعندما عدنا إلى نفس الموقع، وجدناها أُعطيت إلى الاستقبال، واستلمناها بالتمام والكمال، على عكس ما حصل لي شخصيا في بلد آخر، حيث نسيت كيسا صغير من الملابس وعندما عدنا له بعد ساعة لم نجده، وربما يسمع الكثيرون عن إحدى العواصم الأوربية من سرقات مختلفة وأبرزها سرقة الجوالات، فاللافتات هناك تؤكد وتحذر من سرقات الجوالات في وضح النهار، وقد أُلقي القبض على شخص هناك سرق أكثر من عشر جوالات في ساعة واحدة، بينما في موسكو أنت في أمان من تلك السرقات، بل لقد فقدت جوالي، وبعد أقل من ساعة حضر أحد الأشخاص للفندق وقدم الجوال حيث قال أنه وجده بالشارع، وحاولنا بكل ما نستطيع أن نقدم له مكافأة فرفض وبقوة.
أما النقطة الثالثة التي يمكن الإشارة إليها والتي تميز موسكو تحديدا فهي النظافة، فالنظافة من أبرز ما يميزها، فلا توجد نفايات بالشارع على الإطلاق ومستوى النظافة لم أجد مثيلاً له في أي بلد، ولا بد أن نشير إلى أن من أهم أسباب هذا المستوى العالي من النظافة، هو وجود نظام صارم يعاقب من يخالف أنظمة النظافة، وقد أشار المرشد إلى ضرورة التقيد بالنظام لأنه لا يستطيع التدخل في حال تجاوز أحد نظام عقوبة رمي المخلفات.
فالأفكار الجميلة والرغبات المثالية، إذا لم يكن هناك نظام يحميها ورجال يطبقون تلك الحماية، فإنك لن تجدها، فلا يمكن أن نكتفي بعبارات عامة عن أهمية النظافة، وضرورتها، دون وجود آلية لمحاسبة المخالفين.
تلك نقاط بسيطة، وفوائد مختصرة وعبر استلهمناها من زيارتنا لهذا البلد الجميل بلد الحضارة والأمن والنظافة.