آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:02 ص

أنور رضي.. أطفأ المصباح وأغلق الكتاب

عبد العظيم شلي

 حلمٌ ثقيل

أثقلني حلمٌ حين رأيتُ راحلًا غاب عنا منذ سنتين، أحاوره وكأنه لم يزل على قيد الحياة، ألفَيْتُه على عجلةٍ من أمره، وسألته: ”هلّا تفضّلتَ لي بحساب زمن لقائنا هذا؟“ قام بكتابة أرقامٍ أمامي بواسطة عودٍ على الأرض لتواريخ مبهمة، قال: ”عليك الطرح وستعرف الجواب“، تركني مبتسمًا وهو يرفل ببدلته الزرقاء السماوية، وقلتُ له بصوتٍ مرتفع: ”سوف أنعاك يا منصور الحسن عبر مرثيةٍ آتية“.

صحوتُ عند الفجر، وبعد نصف ساعةٍ تقريبًا عدتُ للنوم مرّةً أخرى، وإذا بي أقابل في الحلم ابن أخت الراحل، الأخ محمد الخياط، أقصّ عليه تفصيلًا حلمي عن خاله، وقلتُ له: ”كما أنا فخورٌ بهذه القامة الرياضية التي فقدتها تاروت“.

صحوتُ مثقل الرأس متسائلًا: كيف يأتي حلمٌ جديدٌ ويدور الكلام في حلمٍ آخر حول نفس الشخصية، والمسافة الزمنية لا تتجاوز ربما ساعةً أو ساعتين؟ هل إعجابي الشديد برجلٍ كان ثاني رئيسٍ لنادي الهدى منذ تأسيسه، ولم ينل حقّه بالتعريف والتكريم إلّا لمامًا، وأصبح نسيًا منسيًا؟!

أوعزتُ ذلك ربما لأطياف شخصية هذا الرجل التي تدور في رأسي عن مقالٍ سوف أكتبه مستقبلًا، وتساءلتُ أيضًا: لماذا هذه الشخصية الرياضية تحديدًا أتت لي في المنام على دفعتين متتاليتين؟!

رسائلُ الفقد

بعد تثاؤبٍ وإعداد الفطور بكسل، فتحتُ جوالي لأرسل تحايا الصباح المعتادة، وإذا بي أفتح رسالة تعزيةٍ من لدن الأستاذ الفاضل الأخ هلال حبيل «أبو صدقي» يعزّيني بعد أن قرأ مقالتي الأخيرة ”ملاكًا غادرنا للجنة“ التي كتبتها قبل عشرة أيام، وهذا نصّ كلامه حرفيًا: ”«أدمعت عيني على مقالك عن الطفلة البريئة ابنة ابن أخيك، عظم الله لكم جميعًا الأجر في هذه الطفلة البريئة، وعوّض أبويها بأخرى تسعده وتزهر وتضيء بيته في القادم إن شاء الله.. فقدتُ ابني عيسى الأول في سلطنة عمان وعوّضني الله بعيسى الثاني والحمد لله، فهو وإخويه وأخواته نورٌ وضياءٌ لعيني ولقَلْبي»“. عقّبتُ على رسالة التعزية، وامتدّت رسائلنا بشكلٍ متواصلٍ خلال تناوُل فطوري المتأخر نسبيًا، وعند لحظة ارتشاف كوب الشاي، بعث بصورةٍ شخصيةٍ مُذيّلةً بكلماتٍ وجملٍ عن أخٍ عزيزٍ له لم تلده أُمّه، وهو الدكتور أحمد الزاير الذي توفي منذ سنوات، استرسل في سرد الذكريات التي جمعتهما منذ الطفولة وريعان الصبا وبواكير الشباب، تقاسما عُمْرَ اللقمة والمصروف والآمال وكأنهما توأمان في كلّ شيء، وعن بيت الزاير في الديرة الذي كان ملْفاه، وعن حلمٍ مقبورٍ لم يزل يؤرّقه ما دام حيًا!

بعدها ارتسمت الكآبة على محيّاي بسبب ورود حالات الفقد في الحلم واليقظة، وحاولتُ أن ألهو بعض الشيء بالتصفّح عبر اللون والكلمة، لكن كان ذلك الحلم المتتالي والحوار الصباحي بتذكّر الأموات مجرّد تهيئةٍ لخبرٍ مفجعٍ آت.

الراحل الأستاذ أنور رضيخبرُ الرحيل

عند حلول الساعة الثانية ظهرًا، أرسلت زوجتي في قروب العائلة خبر رحيل أحد الزملاء، وكتبت جملًا قصيرة: ”«أنور رضي في ذمة الله، الله يرحمه ويصبر فاقديه، لاحول ولا قوة إلّا بالله»“، مع نشر نبأ صحيفة قطيف اليوم: ”«سنابس: الحاج أنور أحمد حسن إبراهيم حسن آل رضي في ذمة الله»“.

يا الله.. يا الله.. لاحول ولا قوة إلّا بالله، وضعتُ يدي على جبهتي وأصابعي تفرك جلدي فركًا، وكأني أتحمّم بضبابٍ من الأسى وضراوة أوجاع الفقد، مستذكرًا كلّ المقربين من هذا الأستاذ الفاضل.

وداعًا أنور

ذهبتُ للتشييع بصحبة زوجتي لتقف بجانب صديقتها أُمّ فراس زوجة المرحوم، وقد سبقتنا للمُغتسل زوجة ابني محمد الدكتورة هدى الحجاج وهي الأخرى صديقة روان الابنة الوحيدة للراحل، صداقةٌ متينةٌ كأنهنّ أخوات.

وصلنا والجموع غفيرة، تعازٍ وأحضان وقُبْلاتٌ لإخوةٍ وأنسابٍ وأرحامٍ وأصدقاء لعائلة آل رضي، نحيبٌ والدموع لامعة، وكلّ الوجوه واجمة، صلاةٌ وتشييعٌ والأكُفّ تتسابق على حمل النعش، تهليلٌ يتردد صداه بين جنبات المقبرة، أُنزل الجثمان في لحدٍ مُرقّم، بينما الشمس تنحدر نحو الغروب.

إيه يا أنور، لقد غربت شمسك عنا يوم الجمعة، ماذا أنعيك وماذا أقول فيك بعد الغياب؟ يا أيّها المربي الفاضل، والصحفي الرياضي المولع بحبّ المنتخب السعودي ونادي النور وبكلّ أبناء ورجالات سنابس.

ذكرياتٌ مشتركة

زاملتني في مهنة التدريس لمدّة شهرين بعد انضمام مدرستك ثابت بن خالد الابتدائية مع مدرسة الربيعية، قلبنا الذكريات الرياضية على نطاق الجزيرة وخارجها وكلّ عموم المملكة، وأنت المُغرم بأمجاد الكويت في الفن والصحافة والرياضة.

كم كتبتَ أخبارًا رياضيةً قصيرةً عبر جريدة اليوم بداية عقد الثمانينات، وعلى امتداد التسعينات واصلت كتابة التقارير الصحفية الرياضية في جريدة عكاظ، ثمّ رئيس تحرير في فرعها بالمنطقة الشرقية، مُسلّطًا الضوء على وجوهٍ لامعةٍ سعوديةٍ وخليجيةٍ وعربيةٍ وعالميةٍ، وأحداثٍ رياضيةٍ كبرى، فأنت المتخصّص بعلم الأحياء من جامعة الملك سعود عام 1413، كنت تحيا في عوالم الرياضة مُنظّرًا وفاعلًا ومتنقّلًا بين مدرسةٍ ابتدائيةٍ ومتوسطةٍ.

الراحل الأستاذ أنور رضيأنور.. عاشق الرياضة

شغفك بالهمّ الرياضي يفوق الوصف، وفضولك المعرفي أتاح لك التواصل مع شخصياتٍ رياضيةٍ مسؤولةٍ في ربوع الوطن، الأمر الذي حفّزك لإصدارٍ رياضيٍّ بعنوان: ”«أوليات ومقتطفات متنوعة لدورات الخليج العربي منذ الأولى حتى الرابعة عشر»“، وأردفته بتأليف كتابٍ احتفائيٍّ بوصول المنتخب السعودي للمرّة الثالثة لكأس العالم على التوالي تحت عنوان: ”«كلاكيت ثالث 1424-2002»“. كتابٌ توثيقيٌّ ذو حجمٍ كبيرٍ مليءٌ بالصور وبالجداول المرتّبة حول مسيرة الصقور الخُضْر لأهمّ إنجازاتهم، مستذكرًا جميع المسارات الزمنية من تصفيات كأس العالم بالأرجنتين 1978 إلى مونديال 2002 م في اليابان، بلغت صفحات الكتاب 121 صفحةً من الورق المصقول، اللافت منك يا أنور بأنّك وضعت اسمك على الغلاف وتحته مباشرةً مُنسّق الكتاب ومصمّمه الأستاذ عبد العظيم طلاق، والأخير أوضح لي بأنّكما كنتما بصدد إعداد كتابٍ إحصائيٍّ عن كلّ المعلّمين في جزيرة تاروت، صورةٌ لكلّ معلّمٍ مع سيرةٍ مختصرةٍ، وقد قطعتم شوطًا لكنّ المشروع توقف على أمل أن يُستكمل في وقتٍ لاحقٍ.

كم أنت مدهشٌ يا أنور، وكم يفوتني من كلامك الكثير بسبب سرعة لسانك في لفظ الجمل والحروف وكأنّك على عجلةٍ من أمرك مخافة أن يضيع منك موعدٌ ما، حتى يدَاكَ تتكلّمان بانفعالٍ من كثرة حراكها والنظر للساعة، وإذا نطقتَ تتحدّث بحماسٍ مبالغٍ فيه، يخيل للسامع بأنّنا أمام معلّقٍ رياضيٍّ لا يلتقط أنفاسه ثانيةً خوفًا من ولوج هدفٍ مُباغتٍ، تسترسل في الكلام عبر نَبراتٍ صوتيةٍ إيقاعيةٍ مُتباينةٍ، ولا تُريد أن تفوتك لا شاردةٌ ولا واردةٌ في توصيف حدثٍ ما أو ذكرى رياضيةٍ قديمةٍ، يطلّ من عينيك العسليتين من خلف النظارة الطبية شعاع التركيز والاهتمام لكلّ مُحاورٍ أمامك مهما صغر أو كبر سنّه، تنثر الذكريات التي غابت عن ذاكرة مُجَايِليك بجدلٍ لا ينتهي.

ما أعجبك وأنت تسرد ذكرياتك الرياضية لاعبًا في نادي النور لكرة السلة، ثمّ لاعبًا لكرة القدم مركز الوسط، لكنّ الإصابة كانت لك بالمرصاد، والتي أبعدتك مُبكرًا عن صفوف الناشئين والشباب، منعتك لاعبًا في المستطيلين الترابي والأخضر، لكن تشبّثت بعوالم الرياضة وأخبارها بشكلٍ دؤوبٍ مثل تدريبٍ يوميٍّ ناثِرًا الخبر تلو الخبر في الصحافة السعودية، حبّك للأجواء الرياضية دفعك لتكون إداريًّا لألعاب القوى في نادي النور، وأنت الآتي من أمريكا لفترةٍ وجيزةٍ، ثمّ حكمًا لذات اللعبة.

حين تمشي مثل كلامك مُسرعًا، وكأنّك ذاهبٌ لمهمّةٍ ضروريةٍ في جميع الأوقات، وتنثر الفرح بنُكَتٍ خاطفةٍ، ومتحفّزًا حول مسارات نادي النور وكلّ شيءٍ عن تاريخه الموغل في القدم، الأمر الذي جعلك تهتمّ برصد وتوثيق مادةٍ تفوق مقدرتك وأكبر من مَأْلَمِكَ في التبويب والسرد والتفاصيل والتنسيق.

كتابُ النور.. بين الإنجاز والنقد

حين انتقلتَ عنّي يا أنور لمدرسةٍ أخرى، شعرتُ بالفراغ حيث كنت تُزوّدني بمعلوماتٍ كرويةٍ، وتُشاركني الرأي والذاكرة الرياضية، وطوال عقدين ما أن نلتقي صدفةً، كم ألَحَحْتُ عليك بجملةٍ مُتكرّرةٍ: ”«متى يُصدر كتابك يا أنور عن النور؟»“، تردّ بجملٍ مُكرّرةٍ: ”«يا عزيزي مُشتّتٌ بين التدريس وكثرة الأرشيف، انتظر التقاعد وسوف أنجز كلّ ما يدور في رأسي»!“

آخر مرّةٍ التقينا فيها في صالة أحد البنوك، وطال بنا الحديث مطوّلًا، وأبلغتني حينها بأنّ الكتاب عن نادي النور شبه جاهز، إذ بلغت عدد صفحاته 1000 صفحةٍ، وأكّدت لي بأنّ طباعته مُكلّفةٌ ماديًّا على النادي بسبب كثرة الصور وأغلبها ملوّنةٌ، ولا يوجد داعمٌ تجاريٌّ، قلتُ لك: ”لا بأس، اجعل الكتاب من جزأين واطبعه على فترتين زمنيتين“، قال لي: ”«أُفكّر في الأمر»“.

مرت ربما سنتان ونيف على ذلك اللقاء الأخير، ومع مطلع شهر رمضان الفائت صدر الكتاب بعد جهدٍ جهيدٍ، بعدد صفحاته 414 صفحةً تحت عنوان: ”«نادي النور بسنابس، الذكرى الخمسون على التأسيس والحقبة التي سبقتها 1391-1971 ** 1441-2021»“.

أخذتُ الكتاب ولكن خاب ظنّي حينما تصفّحته ورقةً ورقةً، وما أن انتهيتُ منه ارتسم في ذهني مقالٌ تحت عنوان: ”«ما هكذا يُكتب النور يا أنور»!“

وجدتُ الكتاب مجرّد ألبوم صورٍ، وغير نقيةٍ، مشوّشة الطباعة، مع تعليقاتٍ مُقتضبةٍ أسفل كلّ صورةٍ، لا توجد مادةٌ كتابيةٌ دسمةٌ تُشير لتحوّلات نادي النور صعودًا وأمجادًا في كلّ لعبةٍ، نعم الكتاب مليءٌ بصورٍ لشخصياتٍ رياضيةٍ عديدةٍ قديمةٍ وجديدةٍ وهي بالفعل مؤثّرةٌ في مسيرة النور، مع ذكر شخصياتٍ أيضًا اجتماعيةٍ وفنيةٍ وثقافيةٍ في سنابس، لكن أغفلتَ عن غير قاصدٍ أشهر الأدباء والشعراء مثل حسن دعبل ومحمد الماجد ومحمد حسن الضامن ومحمد رضي أبو عبدالله والدكتور حسن العبندي وعلي الدرورة ويوسف أبريه، وأيضًا لا توجد دقّة معلوماتٍ ولا إبرازٌ نوعيٌّ حول الجانب المسرحي والموسيقي والتشكيلي الذي كان يزخر بهما نادي النور طول عقدَي السبعينات والثمانينات، وتساءلتُ حينها: هل أحدٌ راجع الكتاب من أبناء النادي المخضرمين؟ أم هو الاستعجال في الطبع لفرصةٍ أتت؟ أم إحساسك بأنّ قارئ اليوم ملولٌ لا يُحبّذ القراءات المطوّلة؟

مع كلّ هذه الملاحظات المُقتضبة التي دارت في رأسي، تراجعتُ عن كتابة أيّ نقدٍ بعد أن بلغني بأنّك ترقد على الفراش الأبيض منذ منتصف شهر رمضان الفائت فاقد القدرة على الكلام، وكلّما سألتُ أخيك منير أو زوجته أُمّ علي المعلّمة «شهزلان العبندي» رفيقة زوجتي في الأسفار وإحدى أعزّ صديقاتها، يأتي الجواب بأنّ حالتك الصحية في تفاقمٍ وتدهورٍ، ومن الصعوبة فتح الباب للزيارة ليطمئنّ عليك الأحباب والأصحاب، وممنوعةٌ حتى على الأقرباء، وتساءلتُ بيني وبيني: ماذا لو وصلتك وجهة نظري النقدية؟ هل أزيدك ألمًا فوق مرضك؟ وهل من اللائق أن أكتب نقدًا في حقّ جهدك الشخصي والذي يحتاج لفريق عملٍ، وربما حتى التحرك الجماعي لتدوين مسيرة نادٍ بنشاط 50 عامًا متشظّيةٍ بين رياضيٍّ وثقافيٍّ واجتماعيٍّ واستحضار وجوهٍ رحلت، ستشوب الكتاب بعض الأخطاء لكيانٍ تعاقبت عليه أجيالٌ وأجيالٌ، فمن الصعوبة بمكان رصد كلّ شيءٍ بدقّةٍ، بجميع الأحوال تستحقّ منّا الشكر يا أنور في وقتٍ عجز آخرون وهم الأقدر منك أن يكتبوا شيئًا عن ناديهم، وخصوصًا الفاعلين فيه والعارفين بإنجازاته وكلّ محطّاته وكلّ فواصل تواريخه وحتى أسراره، وأعرفهم بالأسماء لكنّهم مع الأسف يُؤْثِرون الدعة على التدوين!

مهما يكن من رأيٍ شخصيٍّ في حقّ جهدك الفردي، لكنّ الحقيقة الواضحة بأنّك يا أنور حملت عبء عملٍ جماعيٍّ لوحدك، ومعذرةٌ يا أخي وزميلي يا أبا فراس عن كلّ ما دار في نفسي من نقدٍ تجاه عملك المُكلّف والمتعب وسط مئاتٍ من الصور والمعلومات التي حصلت عليها طوال عشر سنواتٍ وأكثر وأنت تجمعها واصفًا محتواها عبر جملٍ مُقنّنةٍ وأخرى تعريفيةٍ مُجتزأةٍ.

هل يفيد الاعتذار بعد الرحيل؟

هل يفيد الاعتذار بعد الرحيل يا أنور؟ وعن آخرين أيضًا شاركوني نفس النقد، كيف لي وأنا المؤمن بمقولةٍ أُكرّرها دائمًا على مسمع الإخوة والأخوات حينما أرى أيّ عملٍ فنيٍّ أو أدبيٍّ، وإن بدأ بسيطًا أو حتى مقالةً متواضعةً، يُوجّه لها سهام النقد من أحدهم، أُجيب بهدوء: ”«دعوا الزهور تتفتّح»“، ومعقّبًا أيضًا: ”يومًا ما صاحب هذا المنتج سوف ينضج أكثر ويكون له شأنٌ آخر“، هكذا التفاؤل يجب أن يسود.

ربما بُحتُ بشيءٍ تمنّيتُ لو أخفيته! لكنّي لاحقًا تفهمتُ نقدي المُنفعِل، وأعرضتُ حتى عن كتابته بشيءٍ من التفصيل عبر مقالٍ مُستقلٍّ، بل صحّحتُ مفهومًا غاب عنّي حول أنواع الكتب حين استحضرتُ بأنّ كثيرًا من كتب الفنّ التشكيلي مجرّد «بيليوغرافيا» سردٌ لسيرةٍ ذاتيةٍ للفنانين والفنانات عبر نقاطٍ مختصرةٍ ومتسلسلةٍ بتواريخ متعاقبةٍ تعلوها صورةٌ شخصيةٌ أو لوحةٌ لكلّ فنّانٍ، وكتابك يا أنور يندرج ضمن هذا النوع من الكتب، فقط كان يعوزك الترتيب والإخراج الجيّد، كم كنت أتمنّى لو استعنتَ ثانيةً بعبد العظيم طلاق الذي أخرج لك كتاب ”«كلاكيت 3»“ المُنظّم والمرتّب والمشوّق للقراءة الزاخر بالمواضيع المُختصرة.

آه ثمّ آه، لقد أدمعت عيني أثناء تلقينك يا أنور في اللحد ونحن وقوفًا على منزلك الأخير، تذكّرتُ: أين ذهبت 600 صفحةٍ من أصل 1000 صفحةٍ التي أخبرتني بها قبل عامين؟ هل خبّأتها عنّا يا أنور وسوف تُخرجها في كتابٍ آخر، كمفاجأةٍ سارةٍ بعد أن تتعافى! ما أقسى الأمراض حيث تفتك بالرجال المخلصين والأوفياء لمجتمعهم.

حينما نثرنا الماء على قبرك يا أنور، أدركتُ حينها كم نحن عطاشى لأمثالك.

تعزيةٌ وجدانيةٌ

تنقل لي زوجتي عن علاقتها الوطيدة مع زوجة المرحوم «أُمّ فراس» في متوسطة دارين حيث مكاتبهنّ بجوار بعض، وكلّ واحدةٍ تُسَلّي الأخرى في حالات رحيل أحبّتهنّ بجملةٍ متبادلةٍ لتخفيف وطأة الفقد عن كاهل أنفسهنّ وكأنّ الجملة شفرةٌ مُستدامةٌ بينهنّ قولًا وكتابةً: ”«وتستمرّ الحياة»!“

لكن حين حَضَنَتْ زوجتي أُمّ فراس للمرّة الثانية بعد يوم التشييع أثناء مجلس فاتحة المرحوم، همست في أُذُنِها بجملتهنّ المعتادة بينهنّ تأكيدًا وإيمانًا بالقضاء والقدر، وبأنّ الحياة هي هكذا وبأنّ هذا الأمر تحت مشيئة الخالق، ردّت عليها: ”«نعم وتستمرّ الحياة لكن هالمرّة چايدة»!!“

لك كلّ العزاء أستاذة «ندى القيصوم»، وحينما ذكرتَ في بداية هذه المرثية ابن عمتك الراحل الدكتور أحمد الزاير، واستعدتَ ذكراه صدفةً صباح يوم الجمعة وكأنّ خيوط القدر تتراسل عبر الأثير لتسرق منك شريك عمرك، استذكرنا راحلًا قريبًا منك مضى نادى على راحلٍ أقرب لك وأمتن، له الرضوان ولكم الصبر والسلوان، ورحم الله والديك عبد الجليل اللاعب الفنّان أحد أعمدة نادي النجم الرياضي بتاروت فترة الخمسينات، وكذا عمّك عبد الرضا، يا أُمّ فراس ويا أُمّ أنور صبرًا جميلًا وبالله المستعان، كلّنا راحلون عن هذه الدنيا الفانية طال بنا الزمان أو قصر.

هل الأحلام تُنبّئُنا بالمستقبل؟

أتساءل بعد سطور هذه المرثية المطوّلة: هل الأحلام أحيانًا تدلّنا على ما سنلقاه غدًا؟ وهل مثّل منصور الحسن بأنور رضي، رياضيٌّ برياضيٍّ؟ لستُ أدري عن علم الماورائيات!

سلامٌ على روحك يا أنور، سلامٌ على روحك المُسالمة، لقد أغلقتَ الكتاب وأطفأتَ عنّا مصباح حروفك.