هواجس العميان
هناك تفاهات يحملها البعض من الناس في مجتمعاتنا يجب الابتعاد عنها وطردها من حياتنا، حيث إنهم عميان على أنفسهم، لكن بصرهم موجه على الآخرين بالقيل والقال، فلان قال وفلان فعل، فلان اشتري وفلان باع، فلان طلق وعلانة تزوج، فلان ربح وفلان خسر، فلان يملك الملايين وعلان فقير، فلان سافر وعلان موجود، فلان ما يصلي وفلان ما يصوم.
العميان في مجتمعاتنا هم الذين يحملون الأسئلة والهواجس التي لا تجلب لهم سوى المشاكل والأمراض والاحتراق النفسي، فلا يكن شغلك الشاغل ماذا أكل فلان وماذا شرب، وأين ذهب علان ولماذا ذهب، ومن كان معه؟ ولماذا لم يخبرنا وا وا وا؟! فهده الهواجس هي واحدة من طرق الوصول إلى مستشفيات الأمراض النفسية، ومن الأفضل الابتعاد عنها.
قصة «العميان» للكاتب ”هربرت جورج ويلز“ هي قصة خيالية تعد من أشهر القصص على الإطلاق طبعت لأول مرة عام 1936 وما زالت حتى الآن واحدة من أروع القصص العالمية.
يحدثنا فيها المؤلف وكاتب القصة هذه عن مرض غريب انتشر في قرية نائية معزولة عن العالم بجبال الإنديز فأصاب المرض سكان القرية بالعمى، ومنذ تلك اللحظة انقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، تكيفوا مع العمى، وأنجبوا أبناء عُميان جيل بعد جيل، حتى أصبح كل سكان القرية من العميان ولم يكن بينهم مبصر واحد.
ذات يوم، وبينما كان «نيونز» متسلق الجبال يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمة إلى القرية ولم يُصب الرجل بأذى، إذ سقط على عروش أشجار القرية الثلجية، وأول ملاحظة له كانت أن البيوت بدون نوافذ وأن جدرانها مطلية بألوان صارخة وبطريقة فوضوية، فحدث نفسه قائلاً: لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخص أعمى.
توغل الرجل إلى وسط القرية وبدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه ولا أحد يلتفت إليه، ومن هنا عرف أنه في «بلد العُميان»، فذهب إلى مجموعة من الناس وبدأ يعرف بنفسه؟ من هو؟ وما هي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم، وكيف أن الناس في بلده «يبصرون».
وما أن نطق لهم بكلمة «يبصرون» حس بخطر المشكلة وانهالت عليه الأسئلة: ما معنى يبصرون؟ وكيف؟ وبأي طريقة يبصر الناس؟ فسخر القوم منه وبدأوا يقهقهون بل ووصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون وقرر بعضهم إزالة عيون «نيونز» فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه.
لم ينجح بطل القصة «نيونز» في شرح معنى البصر، وكيف يفهم من لا يبصر معنى البصر؟ فهرب قبل أن يقتلعوا عينيه وهو يتساءل: كيف يصبح العمى صحيحاً بينما البصر مرضاً؟!.
«العميان» في مجتمعاتنا هم الذين لم ينجح بعض الناس بشرح معنى البصر لهم، وكيف يفهم من لا يبصر معنى البصر؟. وكيف يصبح العمى صحيحاً بينما البصر مرضاً؟
العميان: في مجتمعاتنا هم الذين يرفضون أي فكرة تنويرية تساعدهم على شرح معنى البصر والبدء بالتغيير، لكنهم يصرون على الرفض والتعصب وربما العنف.
العميان: هم أولئك الناس الذين يعملون في الأعمال التطوعية في المجتمع، ويشكلون أحزاباً يتعصبون لآرائهم واي دعوة تنويرية تواجه برفض وريبة وعنف.
العميان: هم أولئك الناس الذين يقفون في المجالس والمناسبات من أجل رجل يملك أموالاً، ويغضون أبصارهم عن الفقير الذي أتعبته هموم الحياة!
العميان: هم الذين سلموا الدكاكين والبقالات وبعض الأعمال الحرفية إلى الأجنبي وراحوا يسهرون في الديوانيات والمزارع على نغمات التعسيلة وطقطقة كؤوس الشاي المخدر.
العميان: هم بعض الناس الذين لا يفكرون إلا في كيف يجمعون الأموال ولا يهمهم من أين وكيف أتت وهل هذا حلال أم حرام.
العميان: هم الذين استهوت بطونهم بالأكل في المطاعم التي تتفنن فيها الأيدي الأجنبية، وابتعدوا عن لمّت العائلة حول السفرة في البيت!
العميان: هم من سلموا إدارة البيوت للعاملة الأسيوية وتركت المرأة واجب الأمومة.
العميان: هم الذين سمحوا بأن يأتي البعض بالغيبة والنميمة في مجالسهم.
العميان: هم الذين يخافون أن يبتلعوا نقطة ماء أثناء الوضوء في شهر رمضان لكي لا يبطل صيامهم، ولا يخافون بأن يبتلعوا مال اليتيم أو إرث الصغير.
العميان: هم الذين يسهرون الليل في المزارع والديوانيات والكرانيش إلى أن ينادي المؤذن لصلاة الفجر.
ختاماً: العميان؛ في مجتمعاتنا تعرفهم عندما يرحل الأب ويكبر الأبناء، ولا ينظرون للبيت سوى أنه إرثٌ مادي يسارع الجميع لاقتسامه أو هدمه! وكم من الإخوة فرقهم بيتاً كان يضمهم في الطفولة والشباب، وأصبحوا يتقاتلون ويتخاصمون في المحاكم من أجله ومن أجل الميراث!.