لا وجود بدون كينونة
يفرق الفلاسفة بين الوجود والكينونة؛ فالوجود يشير إلى الحالة المادية لشيءٍ ما، خاصةً في الفلسفة الغربية. عند ديكارت، يرتبط الوجود بإثبات وجود الشيء بمعزل عن صفاته، بمعنى أن الشيء موجود بغض النظر عن طبيعته. أما الكينونة، فتضفي على الوجود معنىً أعمق؛ فالفيلسوف الألماني هايدغر يرى أن الكينونة هي السؤال عن ماهية الوجود. على سبيل المثال، إذا بُنيت عمارة مكونة من عدة طوابق، فإن إتمام بنائها يمنحها وجودًا ماديًا، لكن هذا الوجود بحد ذاته لا يوضح“لماذا”تم بناء العمارة. هنا يظهر دور الكينونة التي تعطي المبنى معنىً أعمق، كونه مخصصًا لمكاتب تجارية، على سبيل المثال.
إذا تعمقنا في مثال آخر، نجد أن الإنسان موجود ككائن حي، لكن حينما يكون له هدف وغاية، يمتلك كينونة تعرّفه بعمق أكبر. بمعنى أن الكينونة هي حالة عميقة يتجاوز فيها الفرد مجرد كونه موجودًا ليصبح فردًا فاعلًا ذا معنى في وجوده.
تتجلى الكينونة عندما يزداد وعي الفرد، الذي يؤسس له هدفًا خاصًا في حياته. وعندما تتجسد أمامه الأفكار المختلفة ويسعى للاستفادة منها، تتشكل لديه غاية أو مشروع يسعى لتحقيقه. وكلما أتمّ مشروعه، بحث عن آخر. تتأثر الكينونة بالسياقات الثقافية المحيطة بالفرد، فيخرج من دائرة الوجود المجرد إلى دائرة الفاعلية، فالكينونة، إذن، هي الوجود الحقيقي. كما قال ديكارت:“أنا أفكر، إذن أنا موجود.”
حتى من الناحية الدينية، خلق الله العباد لإعمار الأرض بشتى أنواعها، كلٌّ حسب ثقافته وبيئته، حيث يقول الله عز وجل:“واستعمركم فيها”. فالإعمار هنا يعني البناء، وهذا البناء لا يتم إلا من خلال الفاعلية والحركة الفكرية الدائمة التي تمنح صاحبها مكانةً وكينونةً، بخلاف من يعيش بلا فاعلية، إذ يكون وجوده بلا معنى ولا هدف.
تتكون الكينونة من التفكير المستمر والسعي لتحويل تلك الأفكار إلى واقع ملموس. فهي رحلة مستمرة لفهم الذات وتطويرها، يسعى الإنسان من خلالها دائمًا لتحقيق كينونته عبر الفاعلية المستمرة والهدف المنشود.