الرواية السعودية والصحوة … الصراع على المحل الاجتماعي
الكتابة فعل شخصي يحدث في الفضاء الاجتماعي. ولا يمكن للنخبة من الكُتّاب إلا أن تكون في حالة حوار مفتوح مع جمهور وفي فضاء عام. وذلك الفضاء المفتوح هو المحل الأكيد للصراع من أجل الهوية. إذ لا تتشكل الهوية إلا عبر المجابهة. وقد كان هذا المشهد على درجة من الوضوح مطلع التسعينيات الميلادية، عندما أغلقت الصحوة كل ممكنات الحوار، واجتثت مجمل النصوص الموازية أو المضادة استئثارًا بالسلطة. حيث وصل المجتمع السعودي إلى لحظة التناقض القصوى. وعلى إثر ذلك انفجر الخطاب الروائي ليحدث شرخًا في جدار الصمت الذي خيم على المشهد الحياتي، متقدمًا عدة خطوات إلى الأمام لإعادة إنتاج الهوية وتحطيم فكرة البعد الأحادي الديني للإنسان السعودي. وبعد أن كنا نسأل عن سبب غياب الرواية، انقلب السؤال فصرنا نتساءل عن سر تكثُّر الإصدارات الروائية.
لكل مجتمع نصوصه: السياسية والاجتماعية والأخلاقية، والروحية والتاريخية والأدبية. ولا يوجد مجتمع من دون نصوص. وعندما يكتفي مجتمع ما بالنصوص الدينية أو يعطيها الأولوية على حساب بقية النصوص يسقط المشهد في حالة من الاختلال والاستبداد. وهذا هو بالتحديد ما حدث إبان حقبة الصحوة. حيث كان النص الديني، أو بمعنى أدق النص الصحوي، هو المهيمن. وبذلك أغلق مكامن توليد الخطابات وإنتاج النصوص. حيث كانت النصوص الصحوية تسيطر على الجوامع والجامعات وعلى الشارع والإعلام وحتى الفضاءات الالكترونية. وهنا مكمن البطولة التي أبداها الروائي السعودي. الذي سجل حضورًا شجاعًا وواعيًا لتغيير بنية المشهد. إذ برزت كتيبة من الروائيات والروائيين راغبة في التغيير، والأهم إدراكها بأنها قوة قادرة على التغيير.
ومع تتالي الإصدارات الروائية وتنوعها توسع ذلك الشرخ الذي أحدثه الخطاب الروائي في بنية الصمت والخوف، وارتفع منسوب التوتر بين فريقين: أحدهما متمسك بفكرة الإبقاء على معادلة الثبات، والآخر يحاول تحريك الساكن. وعند هذا المفصل تولدت الحداثة الروائية المستمدة لفاعليتها من الحداثة الاجتماعية. فالحداثة الأدبية لا تنشأ إلا من ارتطام نقيضين يتصارعان في فضاء ثقافي. وبذلك صارت كل رواية تصدر فرصة لتيار التشدد للنيل من الخطاب الروائي والروائيين. مرة بدعوى أن هذه الرواية تنتهك الأعراف الاجتماعية، وأخرى بحجة أنها تنال من المقدس الديني، وثالثة بذريعة المس بالقيم الوطنية وهكذا. حيث بدت تلك التخرصات المتعمدة والمقصودة محاولة عبثية يائسة لتعطيل الخطاب الروائي الذي كان يوسع هامش حضوره ويؤثر في إعادة صياغة المشهد والهوية. في الوقت الذي كان فيه الخطاب الصحوي يمارس التعكير والتوتير والإرباك، وفق ما يسميه ميشيل فوكو“مبيان القوة”.
في تلك اللحظة، وفي ظل الانهمارات الروائية، كان المجتمع السعودي ينتقل من المرحلة الشفوية إلى حالة التدوين. وكان يفرغ كل ما يختزنه من حكايات وتاريخ وأفكار وأحاسيس في قوالب روائية. ولم يكن قبل تلك الانعطافة يجرؤ على سرد أي شيء من خصوصياته المكانية أو الفكرية أو العاطفية، وكأنه من تلك المجتمعات الباردة التي لا تسرد نفسها، بتعبير كلود ليفي شتراوس. أو ربما لم يكن الكاتب السعودي يمتلك التقاليد الأدبية لسرد مجتمعه. إلى أن تمكنت كتيبة من الروائيات والروائيين من تحقيق النصاب الأدبي المتمثل في كتابة الرواية، والدخول بالمجتمع في لحظة حداثية متأتية من سياق حداثي اجتماعي. إذ لا يمكن للحداثة الأدبية أن تعبر عن حالة تقليدية والعكس، أي أن الحداثة الاجتماعية لا تقبل إلا القوالب الأدبية الحداثية للتعبير عنها.
وإثر كل جولة من جولات الصراع كانت الرواية السعودية تستجلب أكثر الموضوعات الاجتماعية حساسية. حيث جادلت مفهوم الآخر والقبيلة والإرهاب والحب والعبودية كما اصطدمت مباشرة بالحالة الصحوية بمختلف تمثيلاتها. في الوقت الذي استقبل فيه المشهد حالة انفجار الصمت الأنثوي. من خلال متوالية طويلة من الروايات. حيث أسقطت المرأة كل موضوعاتها في المشهد المتأجج أصلًا. وعليه صارت الرواية تنوع بشكل لافت ومربك على قيم اللبرلة لتوسيع هامش التعبير عن التيار الجديد في المشهد، وتصخيب صوت الروائيات والروائيين. وذلك عبر موضوعات وقيم دنيوية معاشة وملحة، على اعتبار أن الرواية بالأساس خطاب دنيوي، مقابل خطاب الصحوة الأخروي، الذي كان يمارس العنف بكل أشكاله لترحيل الإنسان وقضاياه إلى الآخرة.
وبمعزل عن المستوى الفني، كانت الرواية تنوع بقوة على المضامين باختلاف توجهاتها. حيث كُتبت تلك الروايات بأقلام فصيل من المستنيرات والمستنيرين، الذين حاولوا إحداث التغيير في المجتمع، بغض النظر عن المستوى الفني. وذلك في قلب المجتمع المدني، الذي يشكل المدار الثقافي لأي صراع. لدرجة أن الرواية في السعودية تحولت في جانب كبير منها إلى صندوق اقتراع على القضايا الجدلية. وصار كل روائي أو روائية يدلي بصوته في القضايا المطروحة من خلال رواية تُكتب وكأنها مرافعة اجتماعية انتصارًا لرؤية تقدمية بالضرورة. ليتوسع بذلك الشرخ الذي أحدثه الخطاب الروائي بمروياته الموازية والمضادة للخطاب الصحوي. والأهم أن الجمهور تمكن أخيرًا من الانتباه إلى صوت مختلف، كما انعكس ذلك في جماهيرية الرواية آنذاك.
الرواية خطاب فرداني في المقام الأول، ولذلك جاء تدفق الروايات بتلك القوة والكثافة كإشارة صريحة لانبثاق الفردانية، إذ يمكن لأي روائية أو روائي التعبير بوعيه ومزاجه الخاص عن وجهة نظره إزاء كل القضايا المطروحة بمنتهى الاستقلالية، وبمعزل عن أي استحقاقات جماعية، مقارنة بما كان يقترحه خطاب الصحوة المنادي بالشمولية والمركزية، أو ما يمكن أن نسميه رومانسية الوحدوي. وفي هذا المفصل بالتحديد تكمن الأهمية الكبرى للفردانية التي وطّنها الخطاب الروائي في تحديها لكل ما هو عمومي وجمعي. مع الأخذ بالاعتبار أن الرواية موضوع خطابي بالدجة الأولى. الأمر الذي عزز الفردانية، كما مكّن الرواية من تجاوز الأثر الأدبي إلى التغيير الاجتماعي.