في مجموعته ”على باب مغارة“.. البطران يراوغ الدلالة اللفظية ويجعل من اللغة النصية منطقة وسطى ما بين الإفصاح والغموض
براعة النصوص المفتوحة، تعني أنها تسبر بعمق المعنى وتتمكن منه ظاهريا، وكذلك مراوغة الدلالة لتقف اللغة النصية في منطقة وسطى ما بين الإفصاح وعدمه، فهي تشكل منطقة محايدة، ومن هنا تعطينا بأن للراوي / الكاتب وظيفتان تتمثل إحداهما: تارة يقص ما يحدث وتارة أخرى يعلق أو يصمت والنظام الثيمي في هذه المجموعة ”على باب مغارة“ للقاص السعودي حسن البطران يعطي حركة للنص في اتجاهه المستقيم للوصول إلى نقطة مركزية تكون متوازية ومتوافقة أو ربما مختلفة مع المتلقي / القارئ، ومن ذلك ينكشف لنا قاصنا البطران وكأنه ينهج منهجاً خاصاً به في كتابة القصة القصيرة جداً، فقد قفز على حواجز الضوابط التكتيكية لهذا القص بشكل ملفت للنظر؛ تارة يكتب على شكل ومضة قصصية مكثفة بحيث يأخذ بتلابيبها ويخلق منها مع فكرة النص نصاً عميقاً ذات دلالات متنوعة، أو محددة في أحياناً معينة.
”أحبها، أهداها وردة، أهدته حذاء“، كم يبدو لنا هذا النص بكلماته القليلة المكثفة، يعبر عن واقع نعيشه وندرك أن الحب لا يستحقه أي أحد، فكم نهدي قلوبنا لمن لا يستحقونها.! ولدى القاص إلتقاطات ومشاهدات من الحياة ليس من السهولة صياغتها وكتابتها بشكل نص أو نصوص قصصية قصيرة جداً. أو حتى التعبير عنها والكتابة فيها؛ حيث يتطلب ذلك قدرة إبداعية قل من يستطيع أن يوظفها في نص قصصي قصير جداً، لكن البطران يفعل ذلك بكل براعة واقتدار.
قصص المجموعة قد استلهما القاص البطران من مشاهد حياتية وتجارب قريبة منه، وإن دل ذلك فإنها تدل على استسقاء تلك المشاهد من الحياة المحيطة بالكاتب أو من خلال ثقافة واسعة لديه.
اختلاف الأساليب في القص، وتعدد الأمكنة تؤول لنا أن في كل قصة انتماء لمكان ما، وخلط الأمور ما بين السخرية والواقع يمكن أن يعبر عنها من الأسس التي بنى عليها الكاتب قصصه على حد ظني.
في مجموعته القصصية هذه - على باب مغارة - تتداخل رموز الطفولة، العائلة، الطبيعة، الصراع الداخلي لتشكل عالما من التأملات التي تدعو القارئ إلى إعادة النظر في ما وراء المعاني الواضحة وتأتي هذه النصوص لتلقي الضوء على عواطف متناقضة كالحنين والصراع والبراءة، والحياة، والموت، وهذا ما يجعل القارئ في رحلة من التساؤلات وإعادة النظر في التجارب السابقة له.
وفي هذه المجموعة القصصية، يظهر البطران التكثيف كأحد أبرز أدوات الكتابة التي يعتمد عليها في كتابته للقصة القصيرة جداً، ليبرهن للمتلقي على قدرته في طرح الأفكار بطريقة مختزلة دون إضعاف المعنى أو إفقاد النص روحه الإبداعية، فالقارئ يجد نفسه متورطًا في الأجواء التي تنسجها القصة من خلال أسلوب سردي مختصر، يأسر الخيال ويحفّز الفكر ويثير أسئلة عميقة، حيث تتمكن اللغة من إيصال المعاني بخفة ورشاقة تلتقط من جوهر الحدث مباشرةً.
ويعزز تكتيكه الإبداعي وقدرته الخاصة في هذا الجنس القصصي بالرمزية والإيحاء فهما من أبرز سمات كتابة النص في [ق ق ج]، إذ يوظفهما الكاتب بمهارة تخدم القص والحدث، كما يظهر جليًا في قصصه في هذه المجموعة وفيما ينشره عبر قنوات النشر الإبداعي المختلفة، ونلاحظ في نص ”ممحاة مقاومة“ يظهر لنا مشهدٌ فيه الرضيع بموقف مثير للجدل وتتشابك فيه معاني البراءة.
والخطيئة عبر عدسة يسلطها القاص من خلال لملمة عائلية لا تخلو من الصراع، وفي نص ”تلف جذور“: حيث يقف الغراب فوق الشجرة وتتساقط أوراقها كدلالة على التغيير القسري، بينما يقف الآخر في موقف الرافض للانفصال عن الماضي في مزيج من الرمزية البديعة التي تعبر عن التشبث والتحدي وأن هذه المدلولات الرمزية والإيحاءات المفتوحة تعمّق من التجربة القرائية وتفتح لها آفاقًا متعددة للتأويل والتفكير والاستنتاجات ومشاركة القارئ للكاتب، مما يضفي على النصوص بعدًا جديدًا من المعاني والدلالات ويدفع القارئ إلى البحث عن الثمين والمخبوء بين السطور وتحت المعاني؛ تمامًا كما في مغارة مليئة بالكنوز، حيث تتنوع القراءات وتتشكل المعطيات الدلالية للمعاني، تاركةً لكل قارئ فرصةً مختلفة للغوص في عمقها واكتشاف ما يلامس فكره وروحه، وقد يكون القاص لم يلتفت إليه، وبهذا تمثلت توأمة بين المبدع والمتلقي سواء كان قارئاً أو دارساً أو ناقداً.