آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

ملاك غادرنا إلى الجنّة

عبد العظيم شلي

من أسعد لحظات الإنسان أن يُرزق بمولود، سواء كان ذكرًا أم أنثى، شعورٌ باذخ بالتجلّي واعتزاز النفس، ودعوات شكرٍ لخالق الكون. تتوالى الأمنيات القلبية المرسلة من الأحبّة والأعزاء في ليلة زفاف العرسان:“رزقكم الله الذرية الصالحة، وبارك الله لكم”، و”بالرفاء والبنين”. دعواتٌ إثر دعواتٍ لالتئام الأرواح بالمودّة والعشرة الدائمة، مكللة بإنجاب البنين ليصبحوا لهم زينة في الحياة وذكرًا طيّبًا بعد الرحيل.

كل مولودٍ يأتي هو قرة عينٍ لوالديه، ينظران إليه بعزٍ وفخر، وشعورٍ غامرٍ لا يوصف، فهو الامتداد لكيانهما، كأنما ينظران إلى نفسيهما في المرآة، فهو الذات والكينونة لكليهما مجتمعةً في نفسٍ واحدة. روحٌ جديدة أتت للدنيا، تغسل كل متاعب ومكابدات الوالدين بأمنيةٍ تحققت بعد ترقبٍ وطول انتظار. يتفقان على تسميةٍ ليحمل كنية المناداة لشخصيتهما الكريمتين، تتراسل قلوب الأهل والأعزاء والأقارب والمعارف بباقات التهاني، وتتسابق بنثر الهدايا تعبيرًا صادقًا عن عطية الواحد الأحد.

قبل شهر، رُزق ابن أخي أحمد عبد الحي شلي بمولودة أسماها زهراء. أتت للدنيا بعد ولادة قيصرية، ووضعت في الحضانة، فهي طفلة“خديج”على أعتاب شهرها الثامن. تعافت الأم من متاعب العملية، وظلت الطفلة تحت العناية والمراقبة مع رضاعة يومية من صدر أمها. كل يومٍ وساعة تكبر الفرحة في عيون والديها كلما استجابت للرضاعة وازداد وزنها شيئًا فشيئًا، تتقلّب أحيانًا وتحرك أطرافها ورأسها، وابتسامة وضّاءة على محياها، بينما أنامل الممرضات تنقلها من حضن أمها إلى الحضانة.

لم تنقطع الدعوات القلبية من الأمهات والجدّات طوال 28 يومًا:“اللهم احفظ زهرتنا وجيبها لنا بالسلامة”. نذور لهجت بها الأفئدة بأن يمنّ الله عليها بالشفاء كما منّ على أمها. لكن البارحة وُئدت الأحلام، ذبلت زهراء التي بالكاد تفتحت، لم تنثر عبيرها بالفرح المنزلي المعدّ سلفًا وبالهدايا المنتظرة، غادرت مكانًا لم تبرحه إلا جثةً هامدة.

حملها أبوها دون أمها، وهو يبكي طوال الطريق من مستشفى الولادة بالدمام إلى مقبرة المصلى بتاروت. نزل بمعية والده يحمل طفلته، فتراءى لي وهو مقبل علينا كأنه يحمل ثوب عرسها وليس محبوبته زهراء. أخذته بالأحضان وطبطبت على كتفيه لأهدئ من روعه، وواسيته بكلمات الصبر وطمأنينة التسليم بقضاء الله وقدره. ازداد نحيبه دموعًا وزفرات حسرة، حين طال وقوفه مع عمه والد زوجته، ببكاءٍ مرّ لفرحة لم تكتمل. أنفاسنا تودعها بكلمات الصبر والسلوان:“لله الأمر من قبل ومن بعد”.

وضعت على المغتسل وفُتح القماش الأزرق السماوي، رأيت الوجه النوراني وقد كُتِم، والجسد مخضّر. جسد غض صغير جدًا ينساب عليه الماء بصلوات وتسابيح، نثر عليها السدر والكافور، رائحة نفاذة لا تشمّها إلا عند حوض المغتسل. خرجت من الغرفة مكتوم الأنفاس، تاركًا أخي عبد الحي وابنه أحمد المكلوم برحيل أول مولودة له، لم يهنأ بمقدمها إلا شهرًا واحدًا. جلست وحيدًا بين الممر أتأمل الصمت وأجول بناظري على متعلقات غسيل الموتى واصطفاف النعوش، وتذكرت كم من نفس ودعناها في هذا المكان، وكم سمعت نحيب الأحبة والنسوة وهي تنعى رحيل الأعزاء.

رأيت لوحة معلّقة خلف رأسي أشبه بوسيلة إيضاح في فصل مدرسي: جسد ممدد على نعش، تعلوه عبارة:“صلّوا قبل أن يُصلّى عليكم”، وأسفل الرسم توجيه وإنذار لكل نفس حية:“حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، هذا يومي، فقريب يومكم”. جملة توقظ الحواس الغافية. نعم، كل نفس ذائقة الموت حتمًا طال الدرب أم قصر، ولكن أيّ نفس تحاسب نفسها؟ لطاعن في السن ملّ من الحياة، أم لطفلة لم ترَ من الحياة شيئًا؟ هي الأعمار بامتدادها الزمني مقضية بين ليلة وضحاها.

أُخرجت الرضيعة في كفن أبيض ووضعت على عربة نقل الموتى، وفُتح وجهها، وبعد ثوانٍ قبّلها جدّها وجدّتها وخالها قبلة الوداع. حملها أخي عبد الحي بتؤدة، سائرًا بها لمثواها الأخير. وُضعت في قبرٍ أقل من متر، بجوار حيز مخصص لرحيل المواليد والرضع. أهالوا عليها التراب، وقرأنا الفاتحة على روح غضة لم يصلّ عليها صلاة الموتى، ولم تُلقّن في لحدها، ولن يُقام على روحها مجلس عزاء. رضيعة ليس عليها حساب ولا عذاب، ملاك لم تُسجل عليه شيء في كتاب، لأنها ارتقت للجنة.

صبرًا جميلًا يا ابن أخي، عوضك الله بمولود آخر يمسح دموعك الحارة.