آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 9:02 ص

لقاء في المستقبل

عبد الباري الدخيل *

مرّات عديدة أصرّح لها بحبي، وأطلب منها أن تفصح لي عن مشاعرها تجاهي، لكنها كانت تكتفي بابتسامة صفراء أو نظرة، وتغادر.

مرةً قلت لها: أتعلمين ماذا أرى عندما أغمض عيني؟

قالت: كيف سأعلم؟

قلت: أرى شيئًا جميلًا

قالت: ماذا ترى؟

قلت: أراك.. فأنت أجمل شيء في حياتي.

فابتسمت فقط ثم أمرتني أن أذهب لتناول إفطاري.

ذات صباح حاصرتها بالأسئلة:

”تحبيني؟“.. ”تتزوجيني؟“

نظرت لي بنظرة لم أستطع فهمها وقالت: ”متى بتتزوجني؟“

قلت وقد أشرق وجهي فرحًا: ”عندما أصبح رجلًا كأبي“.

مسحت على رأسي وقلت: أوافق لكن بشرط.. وأكملتْ والذهول يملأ عينيَّ: أن تكون مؤدبًا ومجتهدًا، وتأكل وجبتك لتكون قويًا.

رحت أركض والبهجة والسرور تتدفقان من بين عيني، وابتسامتي المرسومة تكشف عن أسنان كعقد لؤلؤ نضيد.

أحببتها وبقيت أجدد وعدي لها بالزواج، وأطلب منها المواثيق والعهود على أن نتزوج بعد أن أكبر وأعمل طبيبًا أو طيارًا.

كنت أغار عليها إن رأيتها مع أحد الأطفال وأسألها بعصبية:

”من هذا؟“

”تحبينه؟“

مرة قلت لها وأنا أحرك سبابتي: اجلسي فقط مع البنات.

قالت: أنت ولد.

قلتُ بحزم: لكنني أحبك.. ثم حركت يدي قاطعًا الحديث: ونحن سنتزوج.

قالت: إنني معلمة في الروضة، وهؤلاء الأطفال مثل أولادي، ورعايتي لهم مسؤولية.

قلت: أنا لست طفلًا، أنا ”رجّال“.

ومضت سنة دراسية كاملة وأنا معها على هذه الحال، ويوم تخرجت بكيت بمرارة لأنني لن أعود يوم غدٍ للروضة وأراها، وعندما وعدتني أن تزورنا في البيت، هدأت ووضعت شرطًا: «تتعشين معانا».

وتمر الأيام مسرعة وتختلف الوجوه التي تمر علينا، ولا بد للصغير أن يكبر وتأتي اللحظة التي ارتديت فيها عباءة التخرج، لأقف رافعًا رأسي أنظر للحضور بفرح وأمشي بخطوات واثقة على خشبة المسرح لأستلم شهادتي من يد أمير المنطقة.

غادرتُ منصة التتويج متوجهًا لأعانق أمي ولأرد لها جميلها، ولأدعها تعانق حلمها أن تراني في هذه اللحظة.

بعد عناق طويل قالت أمي وهي تشير لسيدة تقف معها: لقد جاءت «أبله مريم» لتشاركنا فرحة التخرج.

فبهتُ واهتز صندوق الذكريات لتخرج من منافذه صور الطفل الذي كان يجري بين يديها.

«أبله مريم» نفس الوجه المشعّ، والابتسامة الرقيقة، والروح المرحة.

هنأتني بكلمات رقيقة، ودعت لي بعبارات محفزة، ومضت.

ذهبت وأمطرت اللحظة أسئلة لا تتوقف:

هل تتذكر «حسن» العاشق أم «حسن» الطفل الشقي؟

هل كانت تعي براءة الأطفال فتجاريهم كما يحبون؟

هل غفرت لي سوء أدبي حينما أغار عليها؟

يا الله.. كنت أفتح يديّ وأقول لها: أحبك بهذا الحجم، وكنت أظن أن الكون بهذا الحجم.

كنت أخبئ ضحكتها في حصالة ذاكرتي كعادة الأطفال حين يقتنون حلواهم المفضلة.. ثم أطعمها لقلبي حين ينتابني حزن.

ما أجملها من لحظة وأقساها على الطفل «حسن»!