آخر تحديث: 30 / 10 / 2024م - 12:08 ص

السُّؤال المعرِفي.. أُحجِية النُّهوض العَربي «2»

محمد الحميدي

”يوريكا يوريكا“ وجدتُها وجدتُها، لعلَّها أشهرُ كلمةٍ في تاريخِ العِلم، فأرخَمِيدس الذِي طلَب منه الحَاكم أن يحسِب وَزن الذَّهب المُستخدَم في التَّاج، إذ شكَّ في أنَّ الصَّائغ أضَاف له النُّحاس، فأرَاد حلًّا يؤدِّي إلى معرِفة الحقِيقَة دُون التَّسبُّب بإتلافِه؛ فكَّر في المسأَلة ووجَد الحلَّ في غَمر المادَّة بالمَاء، وعن طرِيق حِساب وَزن المَاء المُزاح استَطاع معرِفة الحقِيقَة، وفقَد الصَّائغ رأسَه نتيجَة لذلِك، هذهِ المعرِفة المتعلِّقة بإدرَاك وَزن الأشيَاء عن طرِيق الغَمر لم تأتِ صُدفة، إذ سبقَها تأمُّل وتدقِيق وتفكِير، ومعرِفة بالجوانِب الحسابيَّة والهندسيَّة، وهيَ جوانِب برَع فيها اليونانيُّون وقدَّموا العدِيد من الأفكَار والنظريَّات، وبعضُها لا يزالُ صامداً إلى اليَوم، أمَّا أهمُّ استِنتَاج من القصَّة فيتمثَّل بالقُدرة على إجَابة الأسئِلة المعرفيَّة والعلميَّة، التي يتمُّ إنتاجُها وطرحُها والتساؤُل حَولها.

سارقُ النَّار وصانعُ النُّور

أرخَمِيدس من العقُول اليونانيَّة العبقريَّة، التي ألهمَت العَالم بما قدَّمت من إجَابات، فهوَ أحدُ المشتغلِين بالعُلوم والمعَارف، حيثُ قدَّم العدِيد من النظريَّات والفوائِد، وحِينما يُوضَع اسمُه ضِمن سِيَاق الثَّقافة اليونانيَّة سيُنظر إليه كَواحدٍ من المؤثِّرين في التطوُّر واستِمرار الحضَارة، وبجانبِه برَز أبُقرَاط صاحِب القسَم الطِّبي، وفِيثاغُورث الرِّياضي، وسُقرَاط الفيلسُوف، وهِيرودُوت المؤرِّخ، وسُوفوكلِيس المسرحِي، وهُومِيروس الشَّاعر، إضَافة إلى عددٍ من أصحَاب العُقول والمواهِب، التي أبدعَت في النَّحت والعِمَارة، والبِنَاء والتَّخطِيط، وإدَارة الدَّولة والتَّصنِيع الحَربي، واختِراع الأدَوات المنزليَّة الضروريَّة لتسهِيل الحيَاة وتسيِيرها بشكلٍ أكثَر سُهولةٍ وسَلاسة، وهذا ما يطرَح تساؤلاً عن مَنبع المعَارف وأصلِ انطلاقِها!

في المِيثُولُوجِيا اليونانيَّة ثمَّة قصَّة تشرحُ ما حدَث للبشريَّة خِلال مراحلِها الأُولى، حِين كَان العقلُ الإنسَاني يعيدُ التَّأثيرات والأحدَاث إلى آلهةٍ غامضةٍ تسكُن السَّماء والجِبَال، حيثُ كَانت تُتَّخذ القَرارات الهامَّة والمؤثِّرة، المتعلِّقة بموتِ وحيَاة البشَر، فإمَّا أن تَأتي الكَوارث والأمراضُ وتتسبَّب بتقلُّص عدَدِهم، وإمَّا أن تزيدَ ماشيتُهم ومحاصيلُهم فيتكَاثر عدَدُهم، الآلهةُ مَن يفكِّر ويقرِّر وينفِّذ، ومن ضِمن القَرارات المؤثِّرة تِلك المتعلِّقة بالعُلوم والمعَارف، فهيَ وحدَها تحتكرُ المعرِفة؛ لإدراكِها خُطورة حصُول البشَر عليها، إذ يُمكن أن تهدِّد سيطرتَها وهيمنتَها، وهوَ ما كسَره برومِيثيوس بتعاطُفه معَ البشَر.

أحبَّ برومِيثيوس البشرَ لهذَا نقلَ لهم المعرِفةَ التي يحتاجُونها؛ من أجلِ تسهيلِ وجودِهم ومعاشِهم، ثمَّ تمادَى وكوَّن معَهم علاقاتٍ وثِيقة، ناقلاً أخبَار مجلِس الآلهةِ وما يقرِّر في شَأنهم، فكَان يحذِّرهم قَبل حدُوث الكَوارث أو قَبل مجيءِ الأمرَاض، كَما دلَّهم على طُرُق النَّجاة والشِّفاء، وفي خِضَم معركَة بقاءِ البشريَّة ونجَاتها من عِقاب الآلِهة، حِين قرَّرت التخلُّص منهم؛ بسبَب إزعاجِهم وكَثرة مشاكلِهم وطلبَاتهم، مرَّر أسرارَ النَّار وكيفيَّة استخدامِها والاستِفادة منها، وهيَ معرِفة أضاءَت عقُولهم وليالِيهم، فأخذُوا ينظرُون إلى النُّجوم والكَواكب، ويشاهدُون القمَر والنَّيازك، ويبصرُون بعضَهم في الطُّرقات والمجالِس، حيثُ لم تكتفِ بمنحِهم الحرارةَ والدِّفء وطهيَ الطَّعام، وإذابةَ المعادِن وإعادةَ تشكيلِها، وصِناعةَ السُّيوف والسَّكاكين والدُّروع، وأدواتِ المنزِل والحَقل، بل امتدَّت لما هوَ أبعَد، فمنحَتهم إمكانيَّة الرُّؤية في الظَّلام، واستِكشاف أماكنَ لم يحلمُوا بالوصُول إليها، هكَذا اتَّسعت مداركُهم وامتلكُوا سِرَّ الأسرارِ وسبَب قوَّة الآلهةِ وهيمنتِها.

أصبحَ لدَى العقُول المنشغِلة بمسائِل الحيَاة والمعاشِ متَّسع من الوَقت، فمارسَت التأمُّل والتَّفكير، حيثُ تخلَّى النَّاس عن عادةِ النَّوم المبكِّر، مُفضِّلين الجلُوس والتَّحادُث وقَضاء وقتٍ أطوَل في اللَيل، وهوَ ما انسحَب على المعارِف والعلُوم، التي فضَّل أصحابُها الانشِغال نهاراً بمعاشِهم، وتخصِيص جزءٍ من اللَيل لتطوِيرها ومُحاولة الاستِفادة منها، فانعكَست الآثارُ على الحيَاة العامَّة، عبرَ ظهُور النِّقاشات والمُحاورات العلميَّة والفلسفيَّة، وإنتاجِها عقُولاً مُتسائِلة، تبدأُ بطَرح الأسئِلة ثمَّ البَحث عن الإجَابات؛ ما تسبَّب في حدُوث اختراقاتٍ علميَّة، اتَّضحت من خِلال النَّهضة العُمرانيَّة والصناعيَّة والدفاعيَّة والغذائيَّة والعلاجيَّة، وهيَ أهمُّ انشِغالات النَّاس في ذلِك الزَّمان.

انتقالٌ كبيرٌ ترافقَ معَ اكتشافِ النَّار وتوظيفِها في الجوانبِ المعاشيَّة والحياتيَّة، فجهلُ الإنسانِ وخوفهُ من الظَّلام اختفَى، ومعَه اختفَت الكَثير من الأساطِير والخُرافات، التي دأَبت على التَّحذير من السَير في العتمَة، أو ارتِيَاد مناطِق مجهُولة؛ ما فتَح العقُول كَي تُبدع في المسائِل العلميَّة والمعرفيَّة، فظهرَت العلُوم وبرَز العُلماء، واستَفادت منهم البشريَّة في تطوِير الحيَاة وتسهِيل المعَاش، عبرَ الاستِثمار في الزِّراعة والصَّيد والصِّناعة والحياكَة وغَيرها، وهوَ أمرٌ جعلَها أكثَر تركيزاً وحضوراً في مُمارسة وجُودها، كَما زادَ من رغبتِها في السَّيطرة والهيمَنة على الموارِد والأراضِي، وتطوِيعها لخِدمة أغراضِها وأهدَافِها.

العقولُ المتسائِلةُ

العقولُ المتميِّزة لم تقتصِر على الأمَّة اليونانيَّة، التي أمدَّت البشريَّة بكثيرٍ من المعارِف، فإلى جانبِها برزَت أممٌ أُخرى كالفُرس والهُنود والبابليِّين والصينيِّين، حيثُ جميعُهم امتلكُوا رواياتٍ متقاربةٍ عن الحيَاة والمعَاش وتطوِير العلُوم والاستِفادة منها، حفِظَتها مِيثُولُوجيَّاتهم وأساطِيرهم التي تغَلغَلت داخِل عَاداتهم وتقاليدِهم وأفكَارِهم، وهذَا ما يُشِير إلى وِحدة الجِنس البشرِي، وأنَّ الاستِفادة لا تكُون لأمَّة بمعزلٍ عن البقيَّة، فالجمِيع استَفاد وأنتَج وشَارك في طَرح الأسئِلة والبَحث عن الإجَابات؛ لأنَّ العقُول القَادرة على الإنجَاز لا تختصُّ بشعبٍ أو أمَّة أو مكانٍ جُغرافي، إذ تنتَمِي لكلِّ الذينَ يشاركُون في البِنَاء والإِعمَار والهيمَنة على الطَّبيعة، بقدَر توظيفِهم لمعارِفهم.

لم يتوقَّف العقلُ عن التأمُّل والتَّفكير، فالنَّار استمرَّت مُشتعِلة والبشريَّة استَفادت منها في رُؤيةِ ما يكتنفُ العتمَة، مِثلما حصَل في النُّهوض الإسلامِي والأورُوبي، حيثُ الأسئِلة ازدادَت وتعمَّقت وباتَت الإجَابات أدقَّ وتحتاجُ جهداً أكبَر؛ ما دفَع إلى تخصِيص المزِيد من الوقتِ لأجلِ الدِّراسة والعِلم، وكَانت نتيجةُ ذلِك ظهُور عقُول أكثَر عدداً وتميُّزاً، وهوَ ما يُشير إلى أنَّ الأهمَّ تمثَّل في الاستِمرار والتنوُّع، فالأسئِلة لم تتوقَّف يوماً، ولم تكُن هُنالك حدودٌ تحدُّها، لهذَا جاءَت الإجَابات مُتناوِلة جَوانب الحيَاة والمعَاش والدِّين والغَيب، لتتظافرَ وتعمَل على تَشكيلِ وعيٍ إنسَاني؛ ابتعَد عن الخُرافة والأسطُورة، ومالَ إلى الحقِيقَة والمنطِق القَابل للتَّدليل والتَّعليل، وهذَا ما سَاهم في دقَّة الأسئِلة وجعلِها أكثَر تخصصيَّة.

انفتاحُ العلومِ والمعارفِ وتنوُّعها واختلافِها؛ أثرَى الحياةَ البشريَّة ودفعَ بها إلى الأمَام، فلم يكُن أمامَ العقُول المُتسائِلة إلَّا طرْح المزِيد من الاستِفسَارات، آملين بالوصُول إلى إجَابات مُقنِعة وذَات فائِدةٍ في مسائِل الوجُود والمعَاش، فاتَّسعت مسَاحة الاهتِمَام وانضَاف عددٌ أكبَر من المشارِكين في إنتاجِ المعرِفة، بحَسب قُدرتهم وفراغِهم، وهُنا بدأَ ظهُور معارِف جدِيدَة، وتغيُّر معارِف قدِيمة ومُتداوَلة؛ كَونها أُقيمت على أُسُسٍ مُغايرة؛ كَالكيمياء والموسِيقى والبصريَّات، والرياضيَّات والهندسَة والفلسَفة، والطبَّ والتَّشريح والفلَك والتَّاريخ.

إنتاجُ العلومِ والمعارفِ لا يمكنُ فصلُه عن الأسئلةِ المطرُوحة، فالعقولُ المتسائلةُ ليسَت عقولاً فرديَّة، رُغم أنَّها تعمَل بشكلٍ مُختلِف، حيثُ تنتمِي لزمنِها وعصرِها وما يُنتِج من أسئِلة وإجَابات، لهذَا لا يُمكن فصْل الكيميَاء عن الموسِيقى، والبصريَّات عن الهندسَة، والطبِّ عن الفلسَفة، فجميعُها مُتداخِلٌ ومُشترِكٌ في صِناعة الوعيِ الإنسَاني، وما كَان مُتداخِلاً ومُشترِكاً فهوَ مؤثٍّر في الأذهَان وقادرٌ على توجِيهها، يتَّضح ذلِك من اهتِمَام الأفرَاد بنوعٍ معيَّن من الأسئِلة؛ كَونها تُثير داخِلَهم الكَثير من الفضُول؛ ما تجعلُهم يندفِعُون لاكتِشافها ومعرِفة إجَاباتها وأسرارِها.

إنتاجُ المعرفةِ هوَ إنتاجٌ للسُّؤال، الذِي يتكرَّر ويستمرُّ إلى أن يجدَ الإجابةَ المناسبةَ والمقبُولة، أو سيكُون عُرضة للبَقاء في الفضَاء الإنسَاني الممتدِّ، كأمرٍ لم تستطِع البشريَّة تعليلَه، فالعقُول لا تتوقَّف عن إنتاجِ الأسئِلة، إذ تختَار ما يُناسِبها وتحتاجُ إليه ويُثير فيها الفضُول، ثمَّ تبدَأ البَحث عن إجَابته، وحِينما تنتهِي تُعاوِد طرْح سؤالٍ آخر، لتتَّجه بعدَها وتبحثَ له عن إجَابة، وهكَذا تستمرُّ العمليَّة وتتكرَّر، حيثُ لا يقُوم بها فردٌ واحدٌ أو ضِمن اختِصَاص معيَّن، ففي كلِّ علمٍ يظهرُ عقلٌ متسائلٌ يتفَاعل معَ عقولٍ تُماثله وتُساوِيه، لإنتاجِ معرفةٍ مفيدةٍ تقُود الحضَارة وتُساهم في تقدُّمها، عَبر أمرينِ لا بدَّ من توفُّرهما: المخترعاتُ التِّقنية والمناهجُ النظريَّة، وهذانِ هما شرِيكا النُّهوض وشَرطا الاستِمرار والتطوُّر.

الحدودُ والإشكَالات

البشرُ مُتشابِهون في التَّفكير والتَّفاعُل معَ المخترعاتِ التِّقنية، لكنَّهم مُختلِفون في قبُول وتطبيقِ المناهجِ النظريَّة؛ ما يفتحُ البَاب على الفُروقات بينَهم، إذ حِينما يرفُض بعضُهم منهجاً معيَّناً لسببٍ أخلاقِي أو دِيني أو اجتِمَاعي، يقبلُ آخرُون بذاتِ المنهَج ولذاتِ السَّبب، وهوَ ما يضَع البشريَّة في مُواجهة مُشكلة الاختِلاف التي ستغدُو أمراً طبيعيًّا، حيثُ البَشر ينتمُون لهويَّاتٍ وأفكارٍ ودياناتٍ تتنوَّع وتتمَايز، وستكُون مُحاولات جمعِهم والتَّوفِيق بَينهم غَير واقعيَّة، وستُواجه بالكَثير من الشِّدة؛ لأنَّ الجمِيع يرغَب بالحِفَاظ على هويَّته المميَّزة، ويطمَح إلى الارتِقَاء بها؛ لتكُون الأهمَّ وصاحِبة الهيمَنة والسَّيطرة على بقيَّة الهويَّات، وهوَ ما يُمكن رُؤيته عَبر مراحِل التَّاريخ المتعاقِبة.

الفروقاتُ تستندُ إلى أُسُسٍ منهجيَّة ونظريَّة، ولأنَّ الإنسانَ يأخذُ الجوانبَ المتَّصلة بمدِيح هويَّته وتاريخِه، سيكتفِي بإبقائِها خَارج حِساباته، ولن ينظُر لها باهتِمَام، وهوَ ما يُعيق التَّواصل، ويضَع البَشر ضِمن جُزُرٍ مُنفصِلة، لا يتمكَّنون من المشاركَة وإنجَاز ما يلتقُون حَوله، وبهذَا يُمكن إدراكُ انفِصال الحضَارات ونشُوب العدَاوات؛ لأنَّها لا تتقبَّل الآخر ولا تنسجِم معَ أفكَاره ومُعتقداتِه، حيثُ تضعُه مَوضِع المُواجَهة، ينبغِي التَّغلب عليه وهزِيمته، وهيَ العَلاقة الإشكاليَّة بَين الأُمم المُهيمِنة التِي تمنَع الأُمم المُهيمَن عليها من الصُّعود واستِعَادة أمجَادها وتارِيخها، وهذَا تحديداً ما يُعيد السُّؤال حَول المعرِفة والحضَارة والعَلاقة بينَهما إلى الواجِهة.

تحضرُ العقولُ المتسائلةُ كَبانِيةٍ للحضَارة، ومشاركةٍ في تطوُّرها، رُغم وجُود الاختِلافات والتَّبايُنات، فالأولويَّة ليسَت للإجَابة على أسئِلة الهويَّة والانتِمَاء، التِي تُبقِي العَقل في حَالة تحجُّرٍ وجمُود، عَبر العَودة إلى الماضِي والاستِمرار فيه، بل في اللحَاق بالحضِارة والاستِفَادة من مُنجزاتِها، وذلِك بطرْح الأسئِلة عليها من الدَّاخل وليسَ من الخارِج؛ ما يعنِي إبعَاد أسئلةٍ لا تمتُّ لها بصِلة، إضَافة إلى استِعمال مناهِج ونظريَّات أنتَجتها، وتوصَّلت عَبرها إلى أبرَز مُنجزاتِها؛ بغرَض التَّأكد من مصداقيَّتها.

المناهجُ والنظريَّات لا تقلُّ شأناً عن المنجزاتِ التِّقنية والصناعيِّة، إذ هي سببُها والطَّريق المُوصِل لها، ولولا طرحُ الأسئِلة المعرفيَّة المناسِبة؛ لتوقَّفت الحضَارة واختفَى التطوُّر وأُصِيبت الحيَاة بالجمُود، وهذا ما وقَع في العَصر الإسلامِي، حِين انشَغل النَّاس عن المنهَج والنظريَّة بتتبُّع المسائِل الفرعيَّة، والتَّفاصيل الخِلافيَّة حَول الهُويَّة والانتِمَاء، وهوَ ما تنبَّهت له أُوروبا، فقلَّلت منه وقلَّصت أدوارَه، وجعلَته خِيار الفَرد لا خِيار الدَّولة والمجتمَع، فاستطاعَت الحِفاظ على تطوُّرها واستِمرار نُهوضِها، الأمرُ الذِي يُمكن الاستِفَادة منه والبِناء عليه، حيثُ الحضَارة تحمِل معنَى المشاركَة والتَّفاعل وإكمَال المسِير، ولا تحمِل معنَى القطِيعة والرَّفض والانزِوَاء.

خِتاماً

المعارفُ الكُبرى تنتجُها أسئلةٌ هامَّة ومقارباتٌ دقِيقَة، وهذهِ بدورِها نتاجُ عقولٍ متميِّزة في تساؤُلاتها وأُطروحاتها، وإذا كَانت الفَوارِق البشريَّة لا تتعلَّق بالعقُول والمناهِج، بقدَر تعلُّقها بالاختِلافات حَول الانتِمَاء والتَّوجه، ستعدُّ مُحاولة إيجَاد صِيغة توفِّق بَين التِّقنية والنظريَّة من المسائِل الأولويَّة، لمن يُريد الاندِماج بالحضَارة والمشاركَة في تطوُّرها واستِمرارها، وهذهِ إحدَى مُشكلات العَرب والمسلمِين، ولعلَّها أهمُّ مُشكلاتِهم؛ لما لها من تأثيرٍ في تأخُّرهم وجمُودهم، إذ تمنعُهم من طرْح الأسئِلة المناسِبة لعصرِهم وزمنِهم، حيثُ تضَع حواجِز بَين العِلم والنظريَّة التِي أنتجَته، وهذا ما تحتاجُه العقُول المتسائِلة في سَعيها نَحو الإجَابة وإنتَاج المعرِفة.