يوم يتبرأ الناس فيه من وجوههم..!
هذا زمان عسير يخجل الناس فيه من وجوههم وحقيقتهم، هذا زمان يتبرأ فيه المرء من ذاته لذات أخرى يتمنى أن يكونها، ويهرب من حياته إلى حياة يتمنى أن تكون له، وهي ممتنعة عنه، وهو عاجز عنها وغير قادر عليها، نحن في زمن الناس هي «ما تخفيه» لا ما تظهره، ففي زمن التكنولوجيا بات لكل واحد منا تعابير وجه ليست له، وملامح يختارها ليست منه، وإن له أن يختار العمر الذي يحب أن يبقى فيه ولا يغادره…! لقد أصبحنا غرباء حتى على أنفسنا.
دعوني أروي لكم هذه القصة القصيرة: «توالت علي مقاطع لصبي متعلم يتحدث عن هموم الناس والمجتمع» وأغراني حديثه لتتبع هذا الصبي العاقل الرشيد، وبعد البحث القصير وقعت عيني على «رجل سبعيني» أحالته الدولة للتقاعد، حين بلغ الستين!! ولكنه قرر أن يتبرأ من وجهه الذي يحمل كهولته وشيخوخته…!. وحين أنعمت النظر فيه، أيقنت أني ضللت السبيل وأخطأت الظن، إن استعارته لصورة صبي يخبئ شيخوخته خلفها جعلته يخجل من حقيقته، ويكره وجهه، ولا يتقبل أن يراه الناس مجردًا من ذاك الوجه المستعار الذي يسبغ عليه جمالًا وفتوة، وقد عبرهما من زمن بعيد، وكانت نفسه أمام إغراء لا سبيل إلى الصمود أمامه أو الامتناع عنه، هذا ضلال في السعي، وضرب من التيه الذي لا ينتهي ولا ينقضي، أن تسعى دائمًا إلى محبة الناس بصفات ليست لك، وبوجه خلق لغيرك، ومن خلال تقديم ذات ليست ذاتك لا هي أنت ولا أنت هي…!.
ظن بعض علماء النفس أن هذا مرده إلى «العطش إلى الحب» وقيل «هو السعي إلى المكانة» وقيل هو «نرجسية» وقيل هو «الشعور بالنقص» وقيل هو «البحث عن التقبل» وقيل هو تجاوز الواقع لما يتمنى الناس بلوغه والوصول إليه ولا يأذن واقعه بالوصول إليه…!.
ولكن هذا كله حرم الناس جميعا لذة أن يشعر الإنسان بقيمة نفسه، وأنه جدير بها، وأنه بكينونته الناقصة هذه نسخة لا تتكرر في الكون، وإن روحه لها نور خاص بها وحدها، لم يمنح لغيره، ويتفرد هو به وإنها «وحدة جمع» لغيرها، وكينونة عظيمة في وحدتها، وإن لها كمالًا لا يناله إلا من سبر أعماقها واقترب إليها وأيقن بها في ترقب الحظة الطي العظمى التي لا تكرر نفسها، ولا تتيح لنفس الخروج منها لحظة انكشاف الذات على حقيقتها العظمى… لحظة سماع من الجهات كلها… وبالحواس جميعها: «ارجعي إلى ربك…».
هنالك يسقط الزيف كله، وتتراجع الألقاب بتمامها، وتتطهر كل أكاذيبنا المصنعة، وغرورنا… بصلصال الطين الذي كانت منه النشأة الأولى.
إن قيمة كل عمل نعمله هي بقدر الصدق فيه، وينال فضيلته على قدر ما ينطوي عليه من قصد، وإن عجزنا على تقبل حقيقتنا كما هي تجعلنا نفقد أجمل ما فيها من فضائل وأطهر ما تحمله من صفات.
كن أنت!..
فهذا وحده قادر على أن يرفع قدرك عند الله وعند الناس جميعا…!
فإنك إن كنت ضعيفًا لن تضم إلى ضعفك غرورًا يزدريك ويرديك في أعين الناس وإن كنت قويا…! فإن التواضع هو جوهر كل الفضائل، وهو وحده الذي يزيدك رفعة بمقدار ما تنال منه وتقترب إليه.
وإن تبرأ الناس من وجوههم… أظهر أنت جمال روحك من خلاله، وأخرج على الناس بحقيقتك فإن الناس تحبك بمقدار الصدق فيك، وتقترب منك بمقدار ما تحمله نفسك من طهر
«وطهر قلبك دائمًا من استمالة الخلق إليك…».