حُسامٌ مِن وَردٍ ونُبل لا يَنكَسِرُ!
الشمسُ عاليةٌ، والصباحاتُ لا يعكرُ مَزاجها شيء، العشب سجادة خضراء تنادِمُ النهر، لا عربات الخيول تطأُ حريرها ولا أحذية الجند، وحدها أقدام المحبين العارية تبتلُ بالندى، تتراقصُ، تسابق المفازات، عَلَّ المتيّمين بزرقة السماء يحظون بعناق لا فكاك منه؛ عناقُ من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى! السماءُ صافية، لا غيوم تحجبُ النور، بُعيد يومٍ كان الغيثُ فيه سخيًّا، وكنتَ في كوخكَ الخشبي، تراقب الأشجار وهي تغتسلُ بالمطر، كما فتاةٍ يداعب جسدها الماءُ ورائحةُ القبلاتِ لا تزال في عنقها، تَمِيمَة تحميها من حَسدِ الوصيفات!
أنت هناك الزعيمُ، النبيلُ، الحسامُ الذي ما إن يجرحُ، إلا انبجست أنهارٌ من فرحٍ وضحكاتٍ ومحبةٍ وأحاديثَ خلانٍ تطيرُ لها الأقداح وتطرب لها القلوب. كانت خوابينا خاوية، وكنت أنت الساقي، كانت أرواحنا تسقمُ وكنت أنت الشافي، كانَ البُعدُ وحشٌ ينهشنا، وكنتَ حبلًا من وَردٍ يُخرجنا من البئر، ويرمي علينا محبة منه، فنعود مبصرين، دون الحاجة لريحِ يوسفَ أو قميصه! اليبابُ يلفُنا الآن، ونهركَ العسلُ لا نستطيع له من سبيل، وخيلكَ التي كانت تسرجُ لنا فنمتطي صهوة قمرها، بيننا وبينها ألف بابٍ وباب. اليوم، الناجي أنت، ونحن الغرقى. الحسامُ أنتَ ونحنُ الغُمدُ المهترئ. المقيمُ أنتَ ونحن المرتبكونَ! اليوم، المكانُ مؤثثُ بك وحدك لا يشاركك في مجلسك أحد. تبصرك الأعين أينما حدقت، وكأن الغياب هو الحضور في تجليه الأكثر قوة وسطوة. أنت فينا كالنسيم الذي يهب عطرًا، نشمه ولا نراه، يحيطنا من كل صوب، يطوقُ أرواحنا والقلوب بلطفٍ، دون أن تقبضَ عليه الأصابع التي ما عادت تلتقط شيئًا إلا سقط، ولا تمسكُ بوردٍ إلا وهوت أوراقه وامتحى لونه!.
يا هذا الذي في العلياءِ مُبصِرُنا، يتلصصُ على ما يكتبُ الصَحبُ ويُصغي لما يتهامسُون به، دون أن يتمتمَ بحرف. لمَ لا تخرج من هذا الصمت الذي غرستهُ رمحا خطيًّا في قلبِ المدينةِ التي هرعَت إليكَ في دهشةِ القيامة، قيامتك الأزلية، وسرمدك الأبدي، الذي أقمته سورًا عاليًا، تحتهُ كنزٌ لك، وفوقه محيطٌ من وجعٍ دائمٍ لنا!.