آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 1:42 م

زمان أول انتهى وراح وما ظنتي يعود

عباس سالم

لن تمحو سنوات عمرنا شريط الذكريات الذي يختزن في مخيلته، صور البيوت المبنية من الطين ومن سعف النخيل في الكثير من أحيائنا الشعبية التي كانت موجودة في بلدتي «جزيرة تاروت»، حيث كانت الأبواب مفتحة لا تغلق إلا وقت النوم، طيبة الناس كانت مثل لبنات جدران بيوتها المبنية من حجر شَدَّ بعضها إلى بعض بجذوع النخل المغطاة بالجص ولتراب.

لم تكن جزيرة تاروت مجرد جزيرة تحمل على أرضها حضارة تعود إلى العصور المبكرة، مثقلة بالتراث وسحر الماضي، وفيها بيوت الطين والمزارع والبساتين والأسواق الشعبية فحسب، بل كانت أيضاً جزيرة تضج بالروح في بحرها وفي عيونها الفوارة في مزارعها وبساتينها وفي مقاهيها الشعبية، وحين توجد الروح توجد الآلام التي تخشى أن تكشفها أشعة الشمس الساطعة فوق ربوعها.

رِدْني يا زمن رِدْني إلى حينا الشعبي إلى بيوتنا القديمة المتداخلة مع بعضها بعضًا، ففيها ذكريات أهلنا وجيراننا وأصدقائنا وأيام الوناسة التي عشناها بحب نتجمع في الفريج، كانت قلوب طيبة تحملها الناس فيها النخوة والحنان في وقت الضيق، رغم قسوة الحياة والعوز الموجود في كل البيوت، لكن ما حد يمد ايده على الحرام! أحن للماضي وأيام الطفولة والصبا وأيام الشباب، فاسترجع شريط الذكريات الذي يعود بي إلى سنين مضت وما ظنتي تعود.

رِدْني يا زمن رِدْني يمكن أترك هالعتاب ردني لأيام الدراسة لما نمشي المسافات بين واحات النخيل، يمكن أشوف إجدار مدرستنا الوحيدة وأشوف الأصدقاء، ردني يا زمن ردني إلى لمتنا اقبال فرن علوي ودكان حبيب المحاسنة «أبو جاسم» يمكن أشم ريحة خبز الفرن الي تنشم في كل مكان، وأشتري لي خبزة من الفرن ومن الدكان جبنة وغرشة بيبسي القصيبي أيام زمان وكل هذا بنصف ريال، ردني يا زمن إلى زمان انقضى وما ظنتي يعود.

رِدْني يازمن رِدْني إلى زمان أول يمكن أشوف بيوت الطين فيها الآباء والأجداد يرحمهم الله، خذني بعيداً عن البنايات الإسمنتيّة التي اغتالت البساتين والمزارع الجميلة في بلدتي، وامتدت كالأخطبوط إلى أطرافها من كل الاتجاهات، والتهمت منابع الماء في البساتين والمزارع التي كانت تظللها النخيل الباسقات، اشتقت لرؤية ذلك النبع الفوار من ”عين العودة“ الذي يخرج من بين أضلع «قلعة تاروت»، جدرانها بنية اللون دراتها شاهدة على أزمنة ضاربة في القدم، وماؤها رقراق عذب فوار يمر عبر صخور القلعة إل ”حمام تاروت“ فترتوي منه كل الأحياء في جزيرة تاروت.

لم تُمْحَى ذكريات البساتين والمزارع الجميلة من ذاكرتي وإن امتحت من على وجه الأرض، ستظل عين أم عريش، زيزه، المزارع الجميلة التي كانت تحيط بمسجد الخضر، نخل سُوودَه وقضبة والصدري والغسيل، وبساتين سوامة وعين الصادق ونخل الجشي ومزرعة الكويتي ونخل المصلي والصفار، والوزارة ومزارع الحليبي، ومزارع الشمال، وكل المزارع والبساتين في جزيرة تاروت.

الخرسانات الإسمنتية انتشرت في كل مكان بعد أن خربوا الطبيعة وجرفوا الأشجار والنخيل والغابات فغادرت مختلف الحيوانات والطيور المكان، وما أن أمر على أرض ذاك الجمال، وأسترجع الذكريات فيها عندما تطأ قدماي على تلك الأرض وأسلك ذلك المِسرب الترابي الذي بجانبه بئر ماء، كان مورداً يشرب منه الإنسان والأنعام والدواب والطيور التي تسكن المكان.

ختاماً: رِفقا بنا أيتها الحياة فنحنُ لسنا كما كنا في ذاك الزمان، أشياءً كثيرة تغيّرت فينا، أصبحنا كائنات إلكترونية نمشي منكسي الرؤوس نبحلق في أجهزتنا الذكية التي بين أيدينا، وأصبحنا بقايا روح أصواتنا تغيرت وضحكاتنا لم تكن كما كانت، لا الأفراح هي الأفراح ولا الأحزان هي الأحزان ولا اللمة ظلت لمتنا صرنا غرباء في زمن الإنترنت؛ فرحمتك يالله ورفقاً بنا... رفقاً بنا أيتها الحياة.