آخر تحديث: 22 / 10 / 2024م - 2:07 م

الهدى.. شذى ورد وعبق بنفسج

عبد العظيم شلي

مساء الخميس 17 أكتوبر 2024، تناهى الخبر من الرياض عن إعلان بطل جديد لكرة اليد. زُفّت التهاني والتبريكات عُجلى، بعناوين متقاربة، ”الهدى بجزيرة تاروت بطلاً للألعاب الأولمبية السعودية في لعبة كرة اليد في نسختها الثالثة“.

إشارات على شكل قلوب ملونة باللونين الوردي والبنفسجي، تتراقص في العيون عبر التواصل الاجتماعي، تُحيي المحبين وعشاق الهدى.

انثال الفرح من الرياض بهتاف جمهور زحف لمُساندة الفريق بحب يفوق الوصف، يرتدي ألوان الورد والبنفسج، ابتهاج لاعبين تقافزوا سعادة وهم يُعانقون الذهب.

يا له من فأل سعد بمقدم وجوه جديدة، مدرب قدير، ورئيس جدير بمعية مجلس إدارة شاب، لم يألوا جهدًا في تحقيق بطولة ثانية. إنجاز يُضاف لإنجاز في غضون شهرين، وكأن الإنجاز الأول لا يُريد أن يبقى يُترنم به وحيدًا دون عَضيد، ففي الدرب ناداه إنجاز آخر قادم بكل الشوق وحرارة اللقاء ليستقر في خزائن النادي، إنجازان يتحاوران، واحد بلغة الورد والثاني بلغة البنفسج، ليرسما لوحة جمالية.

من ظن بأن كأس السوبر أتى صدفة لنادي الهدى، بغض النظر عما آل إليه ذلك اللقاء الدراماتيكي العالق في الأذهان، فهو مُخطئ تمامًا. كلّ من رأى وشاهد اللقاءات المتعددة للوردي، سواء من حضر في الملعب أو من وراء الشاشات، أيقن بأن الهدى ذو كعب عالٍ، ومنافس عنيد لا يستسلم البتة. أتت بعض المباريات كان فيها متأخرًا بفارق كبير في الشوط الأول، لكن يأتي في الشوط الثاني بروح متجددة ويقلب الطاولة. فقد أطاح بالخصوم واحدًا تلو الآخر، حتى وصل للمباراة النهائية بروح الفريق الواثق، ويتقابل مع من؟ مع ذات المنافس الذي جندله قبلًا «الخليج»، ويدور الصراع مُجددًا ويبلغ أشدّه بين تقدم بواحد أو اثنين، لكن التعادل المُثير يأتي به الهدى في الثواني الأخيرة من عمر المباراة، وعندها يحتكم الفريقان للأوقات الإضافية رغبةً في الحسم. ويا أعصاب اثبتي، ويا عضلات سدّدي، ففي حدود طرفة عين كل الاحتمالات واردة. يأخذ اللعب مجراه بين كرّ وفرّ، جلّ الزمن 5 دقائق لكل شوط، ومعهما يرتفع التوتر وتتسارع ضربات القلب. رميات، صدّات، اشتباكات، مشهد يحبس الأنفاس. النتيجة معلقة، قد تذهب لأحد الفريقين نظرًا لتقارب المستوى ومُلاحقة تسجيل الأهداف تباعًا، لكن تصويبة قاتلة للوردي أتت أيضًا في الثواني الأخيرة، وما بين شهقات وزفير دَوّت صافرة الحكم بإعلان النهاية عن تَسيد فرقة الهدى بفارق هدف واحد عن فرقة الخليج، «27 مقابل 26». عندها ضجّ الملعب بما حوى، وترداد خبر عاجل مفاده:

«CHAMPION»

نادي الهدى بطلاً لدورة الألعاب السعودية الثالثة لكرة اليد.

يا له من فوز عريض على منافس عتيد في خزينته ألقاب وألقاب، وسجلاته من ذهب، لكن هذه المرة أتى الذهب لمستحقه عن جدارة وفن وإبهار، وكأن الهدى كسر أسوار الاحتكار.

أي استحقاق أحرزه الوردي في ظرف وجيز، أن يُعيد الكرة مرتين إنجازًا بإنجاز! هنا تأكيد لمعنى قيمة الحضور، أن تتألق مُجددًا على منصات التتويج وبسرعة فائقة، بإزاحة عثرات العام المنصرم بخسارة البطولات المُتتالية، تفيق من ألم وتستفيق من نَشوة إنجاز وحيد، وتذهب بلياقة عالية وذهنية مُتقدة، وتكون صلبًا عنيدًا وتقبل التحدي بإصرار وعزيمة، هو أمر ليس بالهين. التفاف يقف خلفه عمل مضنٍ بهندسة أفعال، وهنا لا مكان للصدفة حسب الظنون المُشتبكة بتفسيرات العواطف الخَجلى التي نطقت عن هوى، إذ حاولت أن تُقلل من قيمة فوز الهدى السابق حسب نظرها القاصر، وترمي جام غضبها بالتشكيك في لجنة الحكام كشماعة مبتورة.

الآن، ماذا عساها أن تقول بعد الإنجاز الثاني وعلى التوالي؟ أتُقرّ بأن الميدان كان سيد الموقف وبأن النتيجة أتت مُقنعة، أم هناك من لم يَزَلّ يُشكك في التحكيم؟! كل الظنون إلى زوال، ويبقى حُسن التقدير والاحترام، بدعوة حُب صادقة بأجمل عبارة مخطوطة في سجل صحيفة حائطية بنادي النسر بتاروت عام 1972 تقول: «التواضع عند النصر والابتسامة عند الهزيمة». جملة من ذهب، بل هي الرقي المُهذب، أن تُمثل بالأخلاق الرياضية بتقدير الآخرين بأن لهم نصيب في الفوز كما لك نصيب ضمن تنافس رياضي أخوي شريف. أن تُوزع التبريكات في وجه أخيك وقت الخسارة لهو من شيم الأنفس الأبية، وما أكثر هذا الفعل بين الأخوة الأحبة في الأندية المُتجاورة ضمن واحتنا الخضراء، وحتى المُشتركة معك في مساحة الوطن، هي الروح الضافرة التي يجب أن تسود، بها تَعمر الرياضة في بلادنا وتتألق أنديتنا المحلية قدمًا نحو الرقي والشمم.

أيه يا هدى أيها المُتألق في سماء الرياض، ما أعجب لونك الفَتّان، وما أروع فنك يا زارع الورد، يا ناثِر البهجة، يا راسم الفرحة بزرع كان وراءه رجال أخلصوا ونذروا أنفسهم لصناعة النصر بتأهب مُطرد، فأتى الثمر والقطاف وفيرًا. وفي جعبة اللاعبين كان قول الفصل.

المرحوم متصور آل حسن من مؤسسي نادي الهدى بتاروتليلة الخميس الماضية، ليلة لا تُنسى، زُيّنت الصدور بميداليات الذهب، وشعاعها تراسل لمسافة زمنية للوراء تطل على ذاك الزمن مطلع عام 1976 م حين أتى اثنان من أبناء البلد للعاصمة الرياض، وهما الشابان «منصور آل حسن وعبد الحسين زمزم» لمتابعة سير معاملة نادي الهدى لدى رعاية الشباب. تحدثا بلباقة وحوار مُقنع بأحقية شباب النادي في التسجيل، جهودهما تضافرت مع جهود سابقة كان وراءها رجال وأعضاء كُثر، هذان الرجلان قوبلا بالترحاب وبالآمال المُرتقبة من لدن المسؤولين، مُتقاطعة مع زيارات تَفقدية من قِبل أعضاء فرع رعاية الشباب بالمنطقة الشرقية بالدمام، خلال تفقدهم لمقر نادي الهدى أكثر من مرة، جولات مُدونة مرفوعة سلفًا عن سير أنشطة النادي طوال عام. أثنى المسؤولون على حماس الشابين ووعدوهم خيرًا، بوادر حلم يلوح في الأفق. حين ودّعا الرياض راجعين للبلد، فرحتهم تطوي المسافات المُقدرة زمنيًا بـ 6 ساعات، درب مُتعرج وخطر في ليل حالك لكنه مُضاء بالأمل، هون عليهم مشقة السفر، أن سعيهم لن يذهب سُدى. كان لمتابعتهما الحثيثة نُذر خير، فبعد مرور بضعة أشهر، أتى الخبر اليقين في شهر رجب عام 1376 هجرية بتسجيل نادي الهدى بتاروت رسميًا ضمن كشوف أندية المملكة التي ترعاها الدولة.

يا لها من فرحة عارمة تَلونت بها تاروت وتكحّلت بالبهجات والمسرات شيبًا وشبابًا، وها هو التاريخ يُعيد نفسه.

الحاج عبد الحسين زمزم من مؤسسي نادي الهدىهل كان الحلم المُنتظر الذي دار بخلد الصديقين «منصور آل حسن وعبد الحسين زمزم» أثناء عودتهما ليلًا بأن أحفادهما بعد نصف قرن سوف يُكررون المشهد، فيأتون للرياض بحماس وحلم مُرتقب ويعودون مُحملين بالذهب؟ كما حملت نفسيهما الوعود البراقة لاعضاء النادي في ذاك الزمن؟

بين تاريخين «1396-1446» يشهد الدرب فرحتين بينهما 50 عاما، هو ذاته مشوار الرياض ذهابا وإيابا، تتعانق الصورتان ويتجلى المشهدان معنى وقيمة، صور ارشيفية ستعلق في الذاكرة مؤطرة بالحب والاخلاص.

ليلة البارحة عادت الجماهير كما عاد المؤسسون الأوائل من العاصمة، محملين بالأفراح، تتعانق صدى الذكرى مع ترداد الأحفاد بأجمل الألحان طوال أربع ساعات عبر طريق صحراوي مقفر لكنه مقمر بضياء القمر وشعاع الذهب.

تحية للجماهير الوفية وهي تزف اللاعبين والإداريين والمدرب وهي تطوح برايات الورد والبنفسج.

ترانيم معلق اللقاء النهائي الأستاذ «حسين الأحمد» تشنف الآذان عند مسك الختام، جمل عابقة بطعم الإنتصار من وحي اللحظة بارتجال واقتدار، سيبقى صوته صدّاحا مدويا في ارشيف الزمن:

«خلالالالالاص، خلاص الهدى، تاروت فعلتها، الوردي فعلها، محمد جميل جابها، مصطفى شاكر آل نوح عملها، الجماهير.. يا سلام عليك، جزيرة تاروت قلتيها، ماذا فعلت باللتي فعلت، فزت بالبطولة والدورة السعودية الثالثة، نعم، نعم، نعم، نعم، تاروت لن تستطيعي ولن تنامي هذه الليلة، افرحوا يا أهل تاروت، فقد أتيتم بالسوبر، وأتيتم بالألعاب السعودية كم أنت كبيرة يا تاروت. كم أنت جميلة يا تاروت، جزيرة عشق، صبرت ونالت، وتكللت قبلاتها وحلت طيفا من الرياض، عودة بالبطولة السعودية الثالثة، أهل تاروت يستاهلون، جزيرة سكنت وسطرت وأتت بالتاريخ، هللت، ”بيننا أبطال“ - شعار الألعاب - نادي الهدى من تاروت، يستاهل الذهب، حينما يقول الشاعر: هذا الهدى إذا لعب بقوته جاب الذهب. نعم تاروت مطلبي واكتب يا تاريخ وسطر كل الاسطر، بنيت آمال وحققت كل الاحتمالات، عادوا بالذهب إلى الشرقية بالبطولة، هكذا هي تاروت».

يا أيها الفرح المتجدد بجنائن تاروت هل سألت من زرع أشجار الورد شذى ورد وعبق بنفسج؟

تحية للمخلصين في كل زمن.