آخر تحديث: 16 / 10 / 2024م - 1:11 ص

أبو عبد المعطي التركي غواص في بحر التراث ألقى مراسيه ورحل «3-3»

عبد العظيم شلي

للبحر رائحته النفاذة مع حلول نسائم الصيف، هو الموعد المنتظر لحشد الهمم وتعاضد الجهود من أجل سفرات غوص قد تطول أو تقصر، بين غدو ورواح وترقب ورجاء، بوارق لهفة النسوة تتسع وتكبر، فلذات أكبادهن والأزواج سائرون لمعارك البحر.

بحارة ترتسم على محياهم هيبة عسكر، ويعاب على من به وجل، يحيون الموج ويتؤضون من فيض بركاته برغم من فواجعه وما انسل عنه من نكبات وفقد.

توق عارم لشبان حاملين أرواحهم على الكفوف منذورين بالآمال والأحلام المؤجلة، إيقاع مجاديف والعيون تبصر الأفق البعيد، سواعد تشق الموج وتصارع الريح، برسم مواقع الهيرات بحثا عن السحر المكنون، دعوات الأمهات تتوالى كل مساء وصباح وما بين الصلوات ”ربي احرس الغاييبن بعينك التي لا تنام، وجيبهم لينا بالسلامة غانمين“ دعوات قلبية تسافر على تخوم ”الهيرات“ لتحط على مراكب الغاصة كرفرفة نوارس تتهدى مع الريح، والتماعات النجوم.

أذكار وتسابيح دروع صد من كل شر وخوف، ”الخطام“ على الخشوم في اللجج، سباق أبطال لمن هو أطول نفسا، تحد والتحدي غرام النوخذة، دعوة الأم الحنون حرز على الرقاب الرافعة ”الديين“ من حضن الماء.

صباح ندي بالبهجة والطفل عبدالله التركي ذو الثمان سنوات يمد يداه لوالده وعمه عيسى ليصعدانه من قارب صغير ”جالبوت“ إلى سطح ”المحمل العود شريدة“ جلس متمددا في حيز ”الكاتلي“ شارد الفكر مفتونا من رأسه حتى قدميه.

هي الطلة البحرية الأولى التي يدركها بجميع حواسه، سلفا كانت سمعا وخيالا، الآن يشم الهواء بملء رئتيه، عيونه تتفرس في كل شيء، وكل من على المركب، يتأمل هذا وذاك، يألف الوجوه، يسمع الحورات، يعيد صياغة الجمل، يتلقف المصطلحات الغريبة على سمعه ويرددها كمن يحفظ أول دروس المدرسة، ينتشي طربا على شدو النهامة، ألحان ونهمات سكنت فؤاده كنقش في الحجر، يعاين نزول الغيص وجر السيب، يتساءل كيف لبشر أن تغيب بضع دقائق تحت الماء وتعود ”بالديين“ الممتلئ محارا.

قال لأبيه: ”إلى چم يطمسوا لرجال لحدر“، رد عليه فاردا يديه ”غزر الگوع افنعشر باع“ وقرب له المسافة تشبيها ”رفع قصر تاروت، شفت الدبة الصغيرة والعودة منجزيهم“، كم يتمنى أن يغوص مثلهم، ليرى ما يرون، شغف استطلاع يسري في شرايينه.

”محمل شريدة“ يراقصه الموج بإيقاعات غير منتظمة وحراك الغاصة المطرد، أفقد الطفل اتزانه فترنح على الفنة، أصابه دوار البحر، ارتمى في حجر عمه أبو عيسى التركي، لحظات وقذف كل ما في جوفه، حينها عرف لماذا لا يتغذى البحارة على ظهر السفينة فقط بضعة تميرات وقليل من الماء طوال النهار، يتناولون وجبة وحيدة بعد مغيب الشمس، وبحدسه عبر توالي السنين أيقن بأن البطن المليء بالطعام هو تكبيل لنزول ”الغواويص“ تحت الماء.

مر يوم بعد يوم ولم يزل ”التباب“ عبدالله لا يقوى صبرا دون طعام، يتناول ”لقيمة“ رز مع أبيه الحاج تركي وهي وجبة غذاء خفيفة، النوخذة هو الوحيد من كل مجاميع البحارة الذي يتناول طعام الغذاء، هو ربان السفينة ومالكها وقد يكون مستأجرها من أحد ”الطواويش“ أو أحد التجار، هو المسؤول الأول عن سيرها وأمنها وسلامة رجالها، هو الآمر والناهي والموجه العارف بمسالك البحر ودروبه وأماكن تواجد اللؤلؤ ”الهيرات“، لديه معرفة بعلم الفلك عن طريق النجوم يعرف إلى أين يتجه ومتى يبدأ، قارئ للديرة ”البوصلة“ ملما بكل إشارة واتجاه، بالإضافة لخبرته السابقة في مهارة الغوص، يجلس في مكان يسمى ”النيم“ يقع في الثلث الأخير من السفينة يراقب سير عماله.

التباب عبدالله مشتت البال يمشي بحركة بطيئة، فكلما وضع شيء في جوفه رماه قذفا في البحر، تثاؤب ونعاس جعلاه يهرب من مساحة ”الصدر والتفر“ فنزل في جوف المحمل ”الخن“ مستغرقا في النوم ساعة زمن، صح وذهب ”للزولي“ ليقضي حاجته، وقبل غروب الشمس وضع ”اليلاس“ - طبخة ”البرنيوش، أو البرنجوش“ في صحون نحاسية - رز مطبوخ مع دبس - يأكل الطفل باستمتاع وفي نفس الوقت ينظر باستغراب، لأنين غواص مائلا برأسه تارة ذات اليمين وتارة ذات الشمال يضرب بقبضة يده بجوار أذنه، ولاحظ أكثر من شخص يقوم بذات الحركة، تسائل واتاه الجواب بعد حين، أنه ألم يدعى ”الطنان“ والدواء ”چمود“ ماء ساخن مذاب فيه حبات ملح، توضع قطرات في الأذن، علاج مؤقت بإيحاء ذاتي، ينتهي مفعوله كلما غاصوا مجددا، يتحاملون على أنفسهم ويتعايشون مع الألم، لكن الأوجاع تستمر حتى أصابت بعضهم بثقل في السمع وناس بالصمم ”الصمخ“!، والأدهى يصاب البعض منهم بمشاكل الانحناءات ”مرض الفقدان النتيروجيني“ نتيجة الغوص المتكرر بلا معدات حديثة، ويسمى أيضا ”داء الغواص“ هو اضطراب ينحل فيه ”النتروجين“ في الدم وتتشكل فقاعات ضمن الأنسجة بسبب انخفاض الضغط، أعراضه التعب والألم العضلي المفصلي.

سلام على الذين نذروا حياتهم من أجل البحث عن لقمة العيش.

النوخذة تركي أراد لولده عبدالله أن يتعود على أجواء البحر بعمر أصغر، تهيئة مبكرة على مشاق الغوص، طمعا بإدارة دفة المحامل مستقبلا مثلما عوده والده النوخذة حسين التركي على ذلك، فهو يريد أن يسلم الراية لابنه بعد أن يعجزه الكبر، لكن اكتشاف النفط أطاح بصروح الأحلام.

حين عادت محامل بن تركي بعد الغوص الكبير سنة 1938، رجعوا للبحر ثانية لما يسمى بـ ”الردة“ وبعدها ”لرديدة“ لم يأخذ النوخذة تركي ابنه عبدالله معه إلا بعد عام. جاء موسم غوص آخر سنة 1939 م أخذه ثانية حيث شهد الطفل نفس سيناريو العام الماضي، لكن بتأقلم أفضل وبتحمل أكثر وبوعي أوسع.

حين بلغ عبدالله سن العاشرة قوي عوده بعض الشيء، وقد مر بتجربتين قصار نسبيا، اكتسب خلالهما شيء من الجسارة والتحمل، ضاربا على صدره أمام أبيه بأن لديه التحمل والصبر على الجوع ولن يهدم - دوار البحر -، تأبط شجاعة متفوقا على سنين عمره، فانطلق للبحر ثالثة بوعي وفهم وتمرس، يقلد الكبار في حركاتهم وإن كان لم يزل ”تبابا“.

جاء في تعريف التباب المتداول خليجيا اقتبس الآتي من موسوعة قطر البحرية: ”التباب والجمع تبابه، هو الطفل الصغير الذي يكون عمره 6 - 10 سنين تقريبا، والذي يركب عادة على ظهر سفينة الغوص بصحبة والده أو أحد أقاربه، ونادرا ما تخلو سفن الغوص من التبابة، فتجد السفينة الواحدة تحمل ثلاثة أو أربعة منهم، يكلفهم النوخذة بخدمة البحارة، فيحضرون لهم الماء والتمر، ويصبون لهم القهوة، ومن ضمن أعمالهم مساعد اليلاس“ طباخ السفينة ”يكلفهم النوخذة كذلك بالوقوف على رأس الدستور في أقصى مقدمة السفينة أثناء عملية سحب حبل المرساة الطويل وذلك حتى يراقبوا وصول التربيعة“ عقدة الحبل ”ويبلغوا عنها البحارة، قبل أن تصل وتحشر في البلولة“ بكرة السحب ”وتقتلعها من مكانها من شدة الجذب“.

وأيضا يتعلم التبابة على كيفية فلق الأصداف ”المحار“ ولكن نصيبهم ”السحتيت“ أي اللؤلؤ الصغير جدا جدا.

يصف أبو عبد المعطي حاله حين اعتمد تبابا برحلة موسم غوص كامل بدءا من عام 1940 م، وهو المولود سنة 1930 م يقول عن نفسه:

”دخلت البحر يوم عمري عشر، أشوف الغيص والسيب واحيهم بالقوة والتحية، واللي يجيب محار أكثر أحيه بتحية أكثر، واقعد على الكاتلي والنوخذة تركي بن حسين“.

ويوضح على لسانه حسب توصيفه لماهية ”التباب“ وما هو دوره من واقع تجربته الشخصية:

"يسموني تباب، أوقات المحمل فيه اثنين أو ثلاثة تبابه، التباب مايسوب ولا يغوص، التباب يقعد على البلولة

قدام المحمل، عند لخراب، بين البيطة والبيطة ربطة اخرابية، فهذي وظيفة التباب من تجي الربطة اهنيه البلولة فيها فرخ ماطوف الربطة، هذا من تجي الربطة يقول طووووووف، يشوفها من بعيد جايه في البحر، يجي واحد من لسيوب يطوفها علشان تجي غيرها، في سفن على عشرين بيطة وعلى ثلاثين بيطة، البيطة من حبال الكمبار، يجيبوه من النيبار - الهند - النيبار يجيبوه في البحرين والبحرين تجيبه إلى السعودية، حتى حطب الگوران حق الوگيل من البحرين جايبينه من إفريقيا - موباسا - ".

موسم غوص كامل مر على التباب عبدالله، فتعرف على دور ومهمة كل رجل على متن محمل والده، فالتقط جميع المصطلحات البحرية التي يتحدثون بها. وعن ذلك يقول: ”أوقف على رأسهم دولين لسيوب يعگروا حبل أو يسووا حاجة ماأسلهم، أخليها هنا - يشير إلى رأسه - ماأسلهم هذا ويشوه وهذا ويشوه، إذا خلصوا منها، يختبروني، أقول ليهم هذا گوني، هذا الفرخ، هذا لمرد، هذا فلة صدر، هذا الديك، هذا الجلاعية، هذا لشراع طالع منه يوش وطالع منه داسي وطالعه منه درور، الدرجاي من الداسة ويربط في الفرمل، الفرمل هذي حطبة... الخ“.

وأكمل بجملة لها مغزى حول كل من يعمل في مهنة أو حرفة ”ما هو كلمن دخل البحر عرف له“!

نعم هي الخبرة بكل تراكماتها بعقل متفتح ومتفرس بحب العمل وتركيز والتماهي فيه وأيضا قدرة رجل عن رجل تتفاوت جسمانيا ونباهة ورجاحة عقل، بلا شك الفروق الفردية تلعب دورا في مثل هذه الأمور، بعض البحارة يظل طول عمره سياب، يجر حبل الغواص الطالع من عمق البحر، ويتابع نزوله وينتظر إشارته. يتلقف منه ”الديين“ وهو الكيس المتدلي على رقبة الغيص المليء بالأصداف.

يحدثنا ابومعطي عن جمع المحار وهو الغاية من كل رحلات الغوص:

”المحارة إذا جبتها اليوم لا تفلگها في نفس اليوم، تخليها ترتاح علشان تتفتح، تفلگها بكرة الصباح، هذه السفينة فيها“ خنين ”حق المحار خاص، خادعة يمين خن، واللي مجابلنه خادعة يسار، يجمعوا فيهم المحار اليوم هذا، بكرة الصباح يطلعوه على لكبرت أو البيان، اسمين اله، والمياديف لازم تروح بحر وهذا الزبان يجي فوق، علشان يتواسع المحل حگ الجلسة من الصوبين، حتى لرجال يجابلوا بعضهم البعض هذا حگ الفريگ، يفلگوا من بعد صلاة الصبح گبل لا يحولوا يغوصوا، ويقولوا دعاء قبل فلاگ المحار“.

أسماء ومصطلحات بحرية اكتسبها التباب عبدالله وحفرت في ذاكرته ليس من خلال موسم واحد أو اثنين بل عشرة مواسم متتاليات، تدرج فيها من تباب إلى غواص بعد أن اشتد عوده اقتحم الأعماق وانقد الرجال من مخاطر الغرق.

وفي كل موسم له نصيب من ذكرى وحكايات متفردة، باستعراض أبطال الغوص فلان يغوص وتطول مدته تحت الأعماق ليأتي بالمحار أكثر وآخر يأتي سريعا وقليل ما يجمع، واحد يده شحيحة وآخر بريكة ”يد هباش“، تسابق محموم بين غواص وغواص وبين حركات ”لسيوب“، تكمن مهارة السيب الذي يوجه الحبل بنسبة محسوبة بعيدة قليلا عن أرضية السفينة لكي لا تصطدم رؤوس الغواصين أثناء خروجه من الماء.

تغيب شمس وتطلع شمس وكل في حراك البحر يسبحون عمقا، اقبل صبح جديد وانكب الجميع على فلق المحار والسفينة تتهادى بهم على إيقاع الموجات الهادئة مع لوعات الحب التي تداعب خيالات الشباب عبر صوت النهام الشجي عبدالله الماجد وهو يؤدي الزهيرية:

كثر التناهيد وهجرانك نحل خاطري،

لي نامت العين عنكم ماسلا خاطري،

إن كان يازين خاطركم مثل خاطري

ايش السبب ماتداري علة المجروح

قبل يبيد الجسم ويمتليء بجروح

مرة تقول لي تعال ومره تقول روح

ماهو انصاف منكم تبشعوا خاطري.

تنهدات وجدانية وأشواق تكبر كمسافة بحر لعل الأثير يوصلها للمحبين بين الدروب وظلال النخيل طمعا بإكمال نصف الدين.

ذات صبح انتهى الجمع من فلق المحار ولم يجدوا شيئا، مجرد ”سحتيت“، لا يعاد جهد يوم من الشقاء والتعب، لكنهم يتواصون بالصبر عبر تطمينات النوخذة: ”الأمل بالله موجود والرزق على الله، اليوم ما حصلنا باچر نحصل حصبات زينة مثل ما حصلنا مقبل“ كلمات تنسيهم كل عناء، الحلم يتعاكس على صفحة الماء كبريق أشعة الشمس، يتجدد في نفوسهم كل يوم.

وعن تقاليد نزول الغواصين لأعماق البحر يخبرنا الشاب عبدالله التركي الذي تخلى عن وظيفة التباب وأصبح غواصا بعد أن وثق به عمه واطمأن أبيه عليه بعد محاولات متدرجة وجسارة متوالية، يوصف لنا مشهدية العمل بلهجة أهل البحر التي اكتسبها سنينا بقلب حرف الجيم لحرف الياء ”وصلنا للهير صاح النوخذة حجي تركي، نشروا المياديف، نزلوا لحياره، يالله اللي عليه لمگاحمه، نزلوا، أول تبه، طلعوا، يصيحوا، اوييييل الله، - تأتيه الأصوات بأعلى حناجرها - لا إله إلا الله، هذا وقت الصباح، وكل غيص قبل لا ينزل قاعد على التريچ وريوله في الماء، يقولوا بها الدعاء: نزلنا من دبر رب السماء، عليك يا حامي الحمى، - نهمة جماعية - من انهلز، نقول: آوييييل.. لا إله إلا الله، رزق اليوم أخذناه ورزق باچر على الله، وكل يوم وياك زيادة، والغوص عادة، والصلاة عبادة، أول ما نبدي العشاء وتالي الصلاة، صلينا على محمد وآل محمد، وكل واحد باسط على المنامات“.

يأتي يوم آخر يفزون من النوم قبل طلوع الفجر، يباشرون بعد الصلاة الصبح فلق محار الأمس، حياتهم إيقاع منتظم، دورة يومية متشابهة لكنها متقدة بالكفاح، الجديد فيها البحث عن الأمل اللامع سياحة عمل في ربوع جنات الله المائية.

رجال البحر العارفين بأعماق البحر، يعددون على مسامعهم مسميات تضاريس أنواع القاع: ”گوع حداب، دريه، ابيام، - ميافر - لحوف، چهف، علم، مندي، فرخ عريش، عرشان“، وعلى وقع فناجيل القهوة والتمتع بفردات تمر، شدة العزائم، وانبرأت السواعد، لقد حان وقت الغوص.

تقدم الغواص سبع البر والبحر حسين آل سعيد - العوامية - على حافة محمل شريدة كأول النازلين تحت الماء بينما الباقون لم يزالوا يحتسون كؤوس الشاي ويدخنون ”النارجيلة“، غاص أبوصالح عميقا في مغاص ”ابو ديچ“ وطالت مدته تحت الماء وكل رفاقه يعرفون بأنه صاحب نفس طويل، راح يفتش بين أعشاب البحر عن أصداف مختبئة بين الصخور، وبينما يداه في حراك البحث وجد ”صدفة خربة“ أي محارة ليست مغلقة، طال عليها زمنها، لم تأت إليها الأيدي لتأخذها، ”اخربه“ تخادع العيون وتصرف الأنظار عنها، قيل بأنها دون غطاء وقيل بأن غطائها مفتوحا عن آخره، متآكلا ومن يراها يحسبها تالفة، لكن ذكاء الغواص حسين بن سعيد رفعها وإذا بشيء يبرق في وجهه لم يصدق عينيه أهو في حلم أم علم، ارتعش جسمه من شدة المفاجأة، حالا أطبقها وهز الحبل إشارة للسياب لكي يسحبه سريعا، خرج من جوف الماء رفع رأسه وقبل أن يسترد أنفاسه خاطب بن تركي: ”نوخذانا انتر“ رد عليه باستغراب ”چيفه انتر“ قال له أبوصالح: ”طلعنا، الخير جانا“!

إنه اكتشاف عظيم لقد عثر على ”درة“ وهي لؤلؤة ضخمة، بل هي جوهرة عظيمة! وهي من فصيلة ”البينكتادا ريدياتا“ أي اللؤلؤ المشع.

يا له من حظ فلق البحر في عيون الرفاق كأنه عشب لازوردي يمشون عليها طربا ونشوة، سادت الدهشة والغبطة، تهللت أسارير النوخذة،

طاروا جميعا من الفرحة، يتراقصون من التفر إلى الصدر وعند الزبان والفنة، التماعات عيونهم تتراسل مع أشعة الشمس المتلألئ على صفحة الماء فرحة عظيمة أكبر من كل ما عثروا عليه من دانات سابقا، الأماني تتراقص مثل كائنات بحرية تهب على سطح السفينة تخاطب الوجدان.

يدور الطواويش - تجار اللؤلؤ عبر البحر - بلنجاتهم الخاصة طوال مواسم الغوص، يقتربون من تجمع السفن عند مواقع الحداگ: ”اليدر“ و”مريخة“ و”الجر“ و”ابوالعروگ“ و”الصفرة“ و”قمره“ و”الغريبة“ و”أم جبال“ و”ام اسبيطي“، يصيحون بأعلى اصواتهم عند تجمع اللجنات المتناثرة حول مواقع المغاصات: ”مغاص ابوديچ“ و”رأس العيچ“ و”اليدر“ و”مريخة“ و”أبو لعروگ“ و”العظمه“ و”اسطوح العظمة“ و”البهيم“ و”لخشينه“ ”الواسعات السافلية والوسيطة والشمالية“ و”اسلاه“ و”خريش“ و”ابوسعفه“ و”خوره“ و”ابودقل“ و”أبو دقيل“ و”اليشير“ و”خبابان“ والأخير هو الأعمق والأخطر لكثرة أسماك القرش ”هير وحش“ تخاف منه البحارة لا يغوص فيه إلا الجسورين.

يقصد الطواشون مراكب النواخذيه مركبا مركب، يسألون هذا النوخذة وذاك، ويعرض عليهم ما جاد به البحر من لالىء، يتفحصون، يتفاوضون، يدور كلام بين قبول ورفض، ورد وأخذ، مساومات جدلية للظفر ”بشروة“ لؤلؤ مجزية.

تقدم الطواش الحاج عبدالله بن الشيخ - والد محمد تقي آل سيف - بالصعود لمركب بن تركي ”شريدة“، جالسا في حيز ”الكاتلي“ وهو المكان المخصص لجلوس النوخذه في منطقة ”التفر“ أي مؤخرة السفينة، قال له: ”يابن تركي عطنا فالك“ اتى بالصندوق الخاص بحفظ ”القماش - اللؤلؤ“ المسمى ”السفط“ أو ”البشتخته“ عارضا عليه أنواع ما بحوزته من تجميعات اللؤلؤ ”تمبوله، خردله، بدله، زيره، البرده، بطن، رأس، يالس“ وكل واحدة لها شكل معين ولون مميز وقيمة مختلفة من الأعلى للأدنى.

وهنا الميزان الفيصل في عملية البيع والشراء والوزن ”بالچو“ وكل 25 حبة لؤلؤ من الحجم الصغير تساوي 95 ”چو“.

أتت اللحظة الفاصلة حين أخرج بن تركي ”الجيون“ الدانة الكبيرة، حالا تفتقت عيون الحاج عبدالله بن الشيخ بدهشة وهو يتمتم ”ما شاء الله ما شاء الله، اللهم صل على محمد وآل، محمد هذه جوهرة عودة“ راح يقلبها ويتفحصها والبحارة بين واقف وجالس، صامتون يراقبون المشهد بأبصار مشدودة وقلوب يحدوها الأمل والأحلام الوردية.

قال له: ”ما أستطيع شراء هالجوهرة، بس اثمنها ليكم، تعرف هذه چم تسوى“؟

قال له: ”أعرف لكن أنت الأبخص وأنت سيد العارفين“ رد عليه بنفس طويل ملؤه الثقة وبكلام موزون ”طال عمرك يا بن تركي هذه تسوى إليها، تسوى تسوى هذه تجيب ليها فوق 70,000 ألف روبية“ تهللت أسارير بن تركي وإن كان سلفا يعرف بأنها جوهرة ثمينة ستحقق مبلغا عاليا، لكنه لم يكن يتصور بأنها ستحقق هذا السعر، مبلغ لم يكن يتوقعه!

أشار الحاج عبدالله بن الشيخ على محملين قادمين إليهما وهما للطواش الحاج عيسى آل سليس من تاروت وآخر من السنابس الطواش عبدالله بن حبيب والد الطواش الشهير علي عبدالله بن حبيب والذي يعد حسب كلام النواخذية ”افهم من 40 طواش ويكنى بالجوهري“ وكلامه فصل ونظرته صائبة:

”إذا ثمن لك الحصبة عبدالله بن حبيب ما بعد تثمينته أي كلام“.

قال وهو يتفحصها مليا وهو لا يدري كم سعرت من قبله ”هذه الجيون، هذه الجوهرة ينشاف فيها ماي العين، تسوى ليها 70,000“!

”رحم الله والديك أنت أبونا العود في التثمين، وتثمينة بن الشيخ ما راحت مكان بعدها طرية“، للدلال والمثمن لهما عمولة من كل بيعة.

ثلاثة طواشين من جزيرة تاروت لم يستطيعوا شراء ”الدرة“ لكنهم أوصوا بن تركي التمسك بالسعر التي تستحقه وقالوا له: ”بيجوا لك طووايش من البحرين كل ما بين يومين يدوروا أنت عارفنهم، هم أقدر منا على الشرية، إذا انطوك سعر أقل من اللي قلناه لك لا تقبل أبدا، ما عليكم منهم حتى لو راحوا عنك لاتزعگوا عليهم، مردهم بيردوا“!

وعند العصر أقبل ثلاث طواشين لمحمل بن تركي قالوا له ”ها يانوخذه عطنا فالك“ أتوا وجلسوا في حيز الكاتلي وعرض عليهم الجوهرة الثمينة وقدروها بسعر بـ 50,000 روبية، صرف النظر عنهم غير مبال باغرائاتهم المعسولة متشبثا بتسعيرة طووايش البلد، ركبوا مراكبهم وتحركوا مسافة ليست بالقصيرة، وبعد أقل من نصف ساعة عادوا وكأن مغناطيس الجوهرة جذبتهم من حيث يشعرون ولا يشعرون، وفي خلدهم ”دانة ماتتفوت“ قالوا له على سطح سفينة بن تركي قبلنا المبلغ، وبالفعل ”فتحت صرات البيزات“ وتم شرائها من قبل الطواش السيسي والطواش عبدالله سوم الظهر والطواش الزياني هؤلاء أشهر طووايش البحرين ينفاسهم حسن المديفع ومنصور لعريض.

عادت سفينة بن تركي محملة بغنيمة 70,000 روبية وأصبحت البيعة مشهورة ليس على مستوى ضفاف القطيف بل على مستوى الخليجزتوزعت الروبيات على جميع بحارة سفن بن تركي فردا فردا مع تفاوت بين بعض الأشخاص وخصوصا لمن اكتشفها وأيضا نال نصيب كبير الغواصين المهرة فرسان البحر، والذاكرة تحفظ بعضا من أسماء بحارة بن تركي المتوزعون على أربع سفن:

1 - عبد الچواي

2 - عبدالله الچواي

3 - ابريچ أبوعبدالله

4 - جاسم العرادي

- يعد هؤلاء من أمهر الغواصين -

5 - حسين بن سعيد

6 - إبراهيم حليل

7 - مكي المبشر

8 - حسن المبشر

9 - محمد علي مسيري

10 - حسن مسيري

11 - عيسى الفارس

12 - محمد علي اليوسف

13 - جاسم بن سالم

14 - عباس بن حبيب

15 - همبوبه

16 - حسن بن محمد مكي

17 - محمد بن مكي

18 - علي دعبل

19 - إبراهيم مقرن

20 - عبدالله اليتيم

يعد هؤلاء من كبار وابطال الغاصة 21 - حبيب القمارة

22 - حسن الفارس

23 - - أولاد مكي بن سليم

26 - عبدالحسن العرادي

27 - حسن عباس

28 - أبو محمد حسن بن تركي

29 - عبدالعال العقيلي

30 - مكي خلفان

31 - حبيب حليل

32 - أولاد بن يعقوب

33 - حجي عبدالله المهندر

34 - علي عليوات

35 - حسن هلال

36 - علي بن هلال

37 - جاسم الضامن نهام

38 حبيب عليوات، نهام

39 - علي عليوات نهام

40 - منصور حجي مبارك نهام

41 - عيسى الصايغ نهام

42 - حسن الصايغ نهام

43 - عبدالله الماجد، نهام

40 - عبدالله المهر، نهام

هؤلاء موزعون بين سياب وغواص وطباخ ونهام وفي نفس الوقت النهام هو سياب، أما المجدميه مساعدوا النوخذة فهم ثلاثة حسب تعداد الذاكرة:

41 - مجدمي صدر محمد علي عليوات

42 - حسن عباس والد محمد حسن التركي،

43 - جاسم العرادي.

44 - حسن عوجان.

وغيرهم توزعوا على أربعة محامل الحفيز ولواح وشريدة والسعودة، بحارة بن تركي تفتقوا سعادة وحبورا محملين بالربيات الموزعة عليه من الخمسمائة فما فوق إلى ألف وألفين روبية حسب مكانة وطبيعة عمل ومجهود كل بحار، وأكثرهم من دون النوخذة حاز الغواص حسين بن سعيد الذي اكتشفها حيث كان نصيبه 7000 روبية.

مبلغ بيعة الدانة أضيف إليها مبالغ بيع الحصبات السابقة الذي اشتراها طواويش البلد.

حين رجع الغواويص لمنازلهم سادت الأفراح وتغنت طربا الأهل والأقارب والأنساب، كل آلام ومتاعب وأوجاع البحر أصبحت نسيا منسية، دانة زوجت غالبية بحارة بن تركي وعلى وقع الطبل والطار زفت معاريس البلد، أنغام شنفت الأسماع بتلاوين الفرح لأيام وشهور.

وعلى وقع زهيرية الختام من لدن شفاه أبو عبدالمعطي الحاج عبدالله بن تركي بن حسين التركي الذي أرسل الآهات تلو الآهات حتى بلغ من العمر 95 عاما قضاها في حراك مستمر، لم يجلسه لا مرض ولم يعرف للكسل محلا، فقط توعكا في آخر شهرين من حياته، ودع ديرته والأحباب وترداد صوته كصدى يرن في الآفاق:

"يالله مساكم بالمبارك بسأله دايم،

من فضل جودك ولطف منك يا دايم،

إن شاء الله تزور النبي والفوز به دايم،

مدة أنا حي بالدنيا والآخرة،

والعمر خلص ما ادري متى آخره،

الكل يفنى ويبقى وجهه الدايم".

أبو عبدالمعطي غواص في بحر التراث خبر البحر عارفا بأسراره وخرائطه ومسمياته وأحداثه ووقائعه ورجالاته، فهو نوخذة أبا عن جد وما عرض خلال ثلاث حلقات هو جزء يسير من ذاكرته البحرية، ابوعبدالمعطي ليس نوخذة فحسب إنما له اهتمامات أخرى خارج عوالم البحر، له في المجال الفني والشأن الاجتماعي، فهو يعد أحد مؤسسي فرقة تاروت للفنون الشعبية المخصصة للفنون البحرية وإحياء المناسبات الوطنية وزفة المعاريس، يجيد فن الصوت بتلاوينه العذبة والضرب على كل الإيقاعات المختلفة، ويعتبر أحد مؤسسي عزاء تاروت بتراثه القديم ”عزاء الزنجيل“، وقد أسس مأتما باسم عائلة التركي منذ عام 1980 م، وأيضا أحد مؤسسي جمعية تاروت الخيرية، يده ماهرة في صناعة السفن الصغيرة والأعجب ولعه الشديد بخامة المعادن، يبدع في تكوين تشكيلات فنية باهرة، نفعية تطبيقية وجمالية حتى لقب بـ ”ملك السلستيل“.

كان ملكا غير متوج بما خبره من ذاكرة زاخرة في كل لون، وما عرفه من تلاوين الحياة والفزعات ودراية بفضاءات الدنيا وتقلبات الأزمنة، حافظا للشعر الشعبي من أتراح وأفراح وحكمة وأمثال وطرب أصيل، تنساب على لسانه الزهيريات والمواويل وبوذيات الآخرين، يلقيها بروحه العاشقة الولهانة لكل ما هو شجي وذات بعد إنساني وتحسبه برخامة صوته كأنه مؤلفها وليس قائلها.

شكل تواجده في أغلب المهرجانات المحلية عامل جذب للحضور، يشرح للزوار سفينة غوص من صنع يده ويتوسع في الشرح ويفصل بدقة، ويعيد الكلام مرات ومرات كأنه أستاذ في الصف، لديه صدر واسع بتعريف الأجيال الجديدة التي لا تعرف من البحر إلا اسمه ورؤيته جميلا، يسرد حكايات البحر ومعاناة حياة الأجداد والأسلاف، يتحدث ولا يمل من الحديث، حتى أصبح أيقونة شعبية في كل مهرجان، يشعر بالامتنان لكل ما قدمه في حياته الخصبة المحملة بقيم التضحية والبذل والكرم والعطاء.

رحمك الله يا أبا عبد المعطي رحمة واسعة كنت مجموعة رجال في شخص واحد ينذر أن تجتمع في غيرك.

هوامش بحرية:

مروية العثور على الجوهرة صيغت مشهديتها من خلال مصدرين:

المصدر الأول جاء على لسان ابوعبدالخالق عليوات نقلا عن والده الحاج محمد عليوات الذي كان المسؤول الأول عن جميع سفن بن تركي ”مجدمي صدر“ وعلى محمل شريدة شهد الواقعة بنفسه.

أما المصدر الثاني وكل الحلقات الماضية صيغت من خلال مقابلات عديدة مع أبو عبدالمعطي والمحفوظة عبر قنوات اليوتيوب للمهتمين بالتراث البحري وكذا وقفات مسجلة لكاتب السطور أثناء مهرجان بستان قصر تاروت.

ثمة امكنة ترك أبو عبدالمعطي روحه فيها، البحر، ودكانه الصغير الشبيه بالمتحف، ورحاب حسينية بن تركي الذي كان قيما عليها.

تحية إجلال لروح شخص تراه في أحزان وأفراح البلد، صغيرها وكبيرها حتى بعد أن بلغ من العمر عتيا، فهو القائل ومكثرا من هذا القول المأثور:

”الإنسان إذا شارك الناس، الناس شاركته“، سلام على روح إنسان محبا لكل الناس.