آخر تحديث: 16 / 10 / 2024م - 1:11 ص

صيانة التراث في ضوء المنهج العلمي

حسن الحضري *

لا شكَّ في أنَّ تراثنا العربي والإسلامي، قد نال حظَّه من الآثار السلبية المترتبة على الانفتاح الثقافي والتقدم التكنولوجي، بخلاف المجتمعات الأخرى التي تستغل ذلك الانفتاح والتقدم أحسن استغلال، وقد كنَّا نحن أولى بحسن التعامل مع هذه التقنيات الحديثة، لكن الغزو الثقافي والفكري أوجَدَ في بلادنا العربية والإسلامية مثالِبَ وسلبيَّاتٍ نسأل الله السلامة منها.

والعمل على حفظ التراث وصيانته والإفادة منه أمرٌ مطلوب وضروري؛ فالحاضر قائم على الماضي، وأمَّتنا العربية والإسلامية لها تراثها العريق على امتداد تاريخها الطويل؛ وهذا العمل ينبغي أن يقوم عليه ذَوُو العلم والفطنة والخبرة والدِّراية بعلوم التراث؛ فهو عمل حيوي لا مجال فيه للعبث أو التجريب الذي قد يقود إلى التخريب؛ وقد بذل كثير من العلماء المعاصرين والمحققين والباحثين جهودًا طيبةً في هذا الأمر، وقد وُفِّق كثيرٌ منهم إلى حدٍّ كبيرٍ في إنجاز أعمالٍ تدل على سعة علمهم وصحَّة فكرهم وسلامة منهجهم، وفي المقابل تعثَّر بعضهم بطريقة أو بأخرى، مع تفاوُتِ النتائج المترتبة على ذلك.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت بعض المؤسسات التي تزعم الحفاظ على التراث، وتدَّعي لنفسها العلم والفكر والمنهجية، وهذه المؤسسات قد تتوافر لديها إمكانات العمل في هذا المجال، لكن بعضها يعمل من خلال باحثين ومحقِّقين لا تتوافر لدى بعضهم القدرات العلمية أو آليات البحث العلمي الصحيح، ونلاحظ أن الباحثين في علوم التراث عملوا من خلال مناهج مختلفة؛ فبعضهم يكتفي بنقل التراث من مخطوطات إلى كتب، دون بذل أي جهد علمي من تعليق أو استدراك، أو تنقيح لِما قد يكون لحِقَها من فكرٍ مدسوسٍ، أو تهذيبٍ علميٍّ ونقدٍ تحليليٍّ لِما قد يكون بها من أفكار متعارضة أو نحو ذلك؛ وهذا النوع من العمل الخالي من هذه الأمور ليس بشيء، والمؤسسات القائمة عليه لا جهد لها حتى تدَّعي لنفسها ما تدَّعيه.

في حين نرى مؤسساتٍ أخرى تقوم بدراسة التراث ونقده وتحليله، لكن دون علمٍ، فتنقد الصحيح زاعمةً أنه خطأ، وفي المقابل تنقل الخطأ كما هو، بإطراءٍ وإسهابٍ في الثناء عليه وجعْلِه حجَّة؛ وما ذلك إلا لِضَعف العاملين بهذه المؤسسات، وجهلهم بعلوم التراث قلبًا وقالبًا، وهذا النوع من العمل يسيء إلى التراث، ويزيد العبء على الباحثين الجادِّين والمحقِّقين المدقِّقين ذوي الخبرة والمهارة؛ الذين يجدون أنفسهم أمام أخطاء علمية مستحدثة وأفكار دخيلة ينبغي عليهم التخلص منها أولًا، ثم البدء من جديد في التعامل مع النَّصِّ التراثي بطريقة علمية ومنهجية صحيحة.

وبعض المؤسسات البحثية تلجأ إلى محققين ربما كانوا متخصِّصين تعليميًّا لكن بعضهم غير متخصص علميًّا، والفارق واضح بين المستوى التعليمي وبين المستوى العلمي؛ وتطلب منهم هذه المؤسسات تحقيق سلسلةٍ من كتب التراث في مجالٍ ما؛ كدواوين الشعر أو كتب الأدب واللغة أو الطَّبقات أو غيرها، وبعض هذه المؤلفات يحتاج تحقيقها إلى قدرات علمية خاصة؛ كدواوين الشعر مثلًا؛ فإنَّ تحقيقها يتطلَّب الإحاطة بعلم العروض، بجانب النحو والبلاغة وغير ذلك من آليات العمل في هذا الميدان، وبعض هؤلاء المحققين لا يتوافر فيهم ذلك، فيَنتج عنهم في النهاية عمل رديء قد يسيء إلى الشاعر الذي حقَّقوا ديوانه، أو الأديب الذي حقَّقوا كتابه!!.

وكما يبدو من قراءة الواقع؛ فإن السِّباق بين هذه المؤسسات ليس سِباقًا علميًّا تحاول من خلاله كل مؤسسة بذل ما لديها من قدرات علمية في هذا الجانب الحيوي من جوانب البحث العلمي والتحقيق والحفاظ على الهويَّة والفكر؛ لكنه سِباقٌ الهدفُ منه الكمُّ وليس الكيف، وكأنها مؤسسات أَخبارية تتسابق من أجل تغطية خبرٍ أو حدثٍ ما، دون الوقوف على أبعاده وملابساته؛ وهذا لا يصلح في العمل العلمي؛ الذي ينبغي أن يقوم على أساسٍ واعٍ متينٍ من البحث والتحقيق والتدقيق والاستنباط؛ من أجل إثبات الصواب، وإنصاف مَن قد يكون تعرَّض لظلمٍ من العلماء أصحاب تلك المؤلفات، لسببٍ أو لآخر.

والعمل الصحيح فيما يتعلق بالتراث يكون بالتَّبحُّر في علومه، وسَبْرِ مسائله، والوقوف على المستوى العلمي لمؤلِّفِيه، وموقف معاصريهم من مؤلَّفاتهم، والموازنة بينها وبين ما يتناقض معها من مؤلفاتٍ أخرى، وعرْضِ ذلك كله على ثوابت العلوم التي تندرج تحتها هذه المؤلفات، فما زال أناسٌ حتى اليوم يحتجُّون بآراء غير علمية لا لِسَببٍ سوى أنها وردت في مؤلفاتٍ قديمة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم عناء البحث لكي يعلموا أن القدامى أيضًا قد فنَّدوا تلك الآراء وأثبتوا خطأها، أو أنها قد خالفت الصحيح لِما هو أقدم، أو أنَّ قائليها أنفسهم قد رجعوا عنها لمَّا عرفوا الصواب، بل إنَّ مِن هؤلاء مَن يتشبَّث بلفظةٍ مصحَّفةٍ أو معنى محرَّفٍ ناتجٍ عن أخطاء الطباعة أو نحو ذلك، ثم يسلِّم بصحَّتها دون بحثٍ أو تدقيق.

وقد كان العلماء قديمًا يتناولون مؤلفات أسلافهم بالشرح والتحليل في حلقات العلم، بما يشبه التحقيق العلمي للكتب والمخطوطات في هذا العصر، وكان من بينهم أيضًا من ينقل نقلًا دون تدقيق أو تعليق، ومنهم من كان يتناول كل مسألة بالتحليل والدراسة، تحسُّبًا لأخطاء الرُّواة في النقل ونحو ذلك؛ قال الصاحب بن عبَّاد [ت: 385 هـ]: «وانتهيتُ إلى أبي سعيدٍ السيرافيِّ [ت: 368 هـ]، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، وحَسَنُ التصرف، ووافر الحظ من علوم الأوائل؛ فسلَّمتُ عليه، وقعدتُ إليه، وبعضهم يقرأ ”الجمهرة“، فقرأ «أَلْمَقْتُ»، فقلت: «لَمَقْتُ»، فدافعني الشيخ ساعة، ثم رجع إلى الأصل، فوجد حكايتي صحيحة، واستمر القارئ حتى أنشد قول [ت: 82 هـ]:

رسمُ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ *** كِدتُ أَقْضِي الغَداةَ مِنْ جَلَلِهْ

فأخطأ في ضبط كلمة «أَقْضِي» [بتسكين القاف وكسر الضاد]، فقرأها «أُقَضِّي» [بفتح القاف وتشديد الضاد المكسورة]، فقلتُ: أيها الشَّيخ؛ هذا لا يجوز، والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين؛ الأول من الخفيف، والثاني من المنسرح؛ فقال: لِمَ لا تقول: الجميع من المنسرح، والمصراع الأول مخروم؟! فقلتُ: لا يدخل الخرم هذا البحر؛ لأن أوَّله «مستفعلن»، و«مفاعلن» هذه مزاحَفةٌ عنه، وإذا حذفنا متحركًا بقَّيْنا ساكنًا، وليس في كلام العرب ابتداءٌ به، وإنما هو «أَقْضِي» [بتسكين القاف وكسر الضاد]؛ فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه».

وهذه القصة توضح طريقة التعامل الصحيح مع المادة العلمية؛ فابن عبَّادٍ في هذا الموقف استطاع بالحجة والمنطق إنصاف مؤلف ”الجمهرة“ من أن يُنسَب إليه خطأ زيادة ألِف التَّعدِية المقحمة على قوله «لَمَقْتُ»، وكذلك إنصاف الشاعر صاحب البيت المذكور مِن أن يُنسَب إليه خطأ في إقامة الوزن؛ ومن خلال ذلك وجَّه حلقة السيرافي إلى الصواب فيما يتدارسونه، ونلاحظ أيضًا أن استدراكاته على حلقة السيرافي لم تمنعه من الإقرار للسِّيرافي بِسَعة العلم والفضل.

وقد أتيحت في عصرنا الذي نعيشه الآن وسائل بحثية ومعرفية لم تكن متاحة في العصور السابقة، ولو تم استغلالها بصورة جيدة؛ لعرفنا أين تكمن القيمة العلمية في تراثنا العريق، ولاستطعنا صُنع جسور امتدادٍ معرفيٍّ، يساعدنا في إتمام ما شيَّده أسلافنا من حضارة علمية وفكرية، تُعِيد إلى أمَّتنا ريادتها وأمجادها؛ فالنظريات العلمية الحديثة لا تخلو من أساسٍ راسخٍ لها في التراث، الذي يجب العودة إليه ليكون نقطة انطلاقٍ مِن شأنها أن توفِّر الجهد والوقت، ولكن ذلك لا يمكن أبدًا أن يحدث إلا بإِعمال الفهم والاستقراء والاستنباط الصحيح، الذي نستطيع معه فهْم تراثنا الفهم الصحيح، وكم من نظرية في هذا العصر زعم بعض المعاصرين أنهم ابتكروها ابتكارًا، بينما هي في الواقع ضاربة بجذورها في أعماق تراثنا العربي والإسلامي!! والفارق الوحيد أن الذين يزعمون ابتكارها الآن لا يحسنون تطبيقها، أو أنهم انحرفوا بها تنظيرًا وتطبيقًا ثم زعموا الابتكار.

وقد يساهم فهم التراث ومعرفته، في إقامة الأدلة العلمية على صحَّة نظرياتٍ تراثيَّة لم يتطرق القائلون بها من أسلافنا إلى طرق إثباتها؛ ويفتح ذلك أيضًا المجال للإضافة والتعقيب، والتعميم أو التخصيص بحسب الموضوع وآليات بحثه المتاحة، وكذلك بناء نظريات مضادة قد تكون أدَّت إليها عوامل جديدة لم تكن معروفة عند أسلافنا؛ فالرجوع إلى التراث له فوائده الجمَّة في كل حال، لذلك يجب أن تُقدَّم المادة التراثية بشكل صحيح كما أرادها كاتبها، وليس كما نُقِلت عنه أو نُسِخت مصحَّفة أو محرَّفة أو مَشُوبةً بمغالطاتٍ لا يقصدها أو نحو ذلك.

فجَمعُ التراث وحِفظُه؛ لا بدَّ أن يتم من خلال منهج علمي صحيح يضمن صيانته وتهذيبه؛ حتى تتحقق الفائدة منه، على النحو الذي بيَّنَّاه في السطور السابقة.

شاعر وكاتب وناقد أدبي مصري - عضو اتحاد كتاب مصر