آخر تحديث: 16 / 10 / 2024م - 1:11 ص

نقطة الأصل

عبد الله الناصر

منذ أيام ليست ببعيدة، كنت على موعد لإجراء معاملة في إحدى المؤسسات الخاصة، وقبل وصولي إلى بوابة المؤسسة فتح حارس الأمن الباب لي. لفتتني أناقته وبشاشة استقباله، وكنت أدقق في ملامحه، وكأني قد رأيتها من قبل، حتى اقتربت منه وحينها صُدمت …، كان طالبا قديما في مدرستنا، غيابه أكثر من حضوره، ورسوبه أكثر من نجاحه، كثير المشاجرات، لا يحترم أحدا، ولا يهتم بالعقاب ولا يسمع النصيحة...، وزادت دهشتي عندما وجدت أن هذا الطالب أصبح شخصا آخرا واقفا أمامي بكل أدب وذوق، صافحني بحرارة تسللت إلى يدي، وكانت نظراته تحمل معان كثيرة، شعرت منها أنه سعيد وفخور لرؤيتي له كشخص آخر مختلف عما كان عليه، فسألته عن سر هذا التغيير؟ قال لي عبارة لم أستطع فهمها «رأيتك اليوم ذكرتني بمدرستي وبالشخص الذي كان له الفضل في تغيير الكثير من سلوكياتي» عندها غلبني الفضول لمعرفة الشخصية القوية في مدرستنا التي استطاعت تغيير هذا الشاب.

سأكتب لكم مختصر ما قاله في وصفه للشخصية التي ساعدته على التغيير للأفضل، كنت طالبا أعيش ظروفا صعبة في بيت متشتت وكنت أرى الحياة من خلال منظار أسود كئيب، أتذكر تلك الفترة جيدا لعمق ما كنت أعيشه حينها من فترة ضيق قاسية، كنت أنتزع نفسي من البيت الذي لم أر فيه اهتماما، وأخرج لحياة الشارع؛ لأثبت نفسي فيه، كنت أشعر أنني على خطأ؛ ولكن لم أعرف إلى أين أتجه؟ وماذا أفعل؟ وكلما شعرت بالضياع زادت تصرفاتي سوءا، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي وقف أمامي ذلك الشخص الذي سأظل ممتنا له دائماً، كانت ابتسامته لي مطمئنة، ورغم وقاحتي معه لم يتوقف عن اللقاء بي، وأنا معه كنت أشعر أن شفتي تتكلم عما في داخلي، عن أشياء أخاف أن أبوح عنها لأحد، فلديه طاقة مريحة جدا، كنت كالغريق تلعب بي الأمواج، وكان هو اليد الحانية التي قادتني إلى شاطئ السعادة، قدم لي الحب والاهتمام الذي لم أره من أحد، علمني أن الكسول ليس من يملك درجات قليلة، إنما الكسول هو الذي يتوقف عن التقدم بعذر ضعفه، ويضع الأعذار المحيطة به؛ ليعيش دور الضحية، فيقنع نفسه بالضعف والفشل، وأن من يفكر بالماضي لن ينجح؛ لأن الحياة تسير للأمام، لا للخلف، ورغم انشغالاته في المدرسة، كان يشعرني أنني أهم أولوياته، لم ييأس مني، وظل خلفي دائما وكأنه عمل تحليلا داخليا لي؛ ليخرج بنتائج تريني أنني أملك بداخلي قوة جيدة ومميزة، غير الضعف الذي كنت أستشعر به، وبعد لقاءات مستمرة بدأت أتعلم أن قوتي الحقيقية في احترام نفسي أولا، وأن الضعف يكمن في تقليل احترامي للآخرين، ومنها أدركت أنني يجب أن أصلح ما أستطيع من نفسي؛ حتى أحصل على مستقبل أفضل.

بدأت بمحاولة الدراسة؛ للنجاح ونيل الشهادة الثانوية، ووقف معي عندما طلب من المدرسين أن يقدموا لي المساعدة، حتى تخرجت وكنت سعيدا بهذا النجاح، رغم أن معدلي لم يؤهلني لدخول الجامعة؛ ولكني واصلت بجد للبحث عن عمل وأنا سعيد بعملي، وتزوجت مؤخرا ولدي عمل تجاري حر أيضا، أسعى فيه لتحسين مستقبلي المالي والوظيفي، ولو أني لم أستمع لنصائحه؛ لكنت كالجذع اليابس الذي سينكسر حتما، وكنت اليوم في عداد الأشخاص الفاشلين؛ ولكني اتخذت الطريق الذي نصحني به، وكان ينتظرني النور في نهايته.

أنهى قصته بابتسامة كلها رضا بما وصل إليه اليوم، كان بودي أن أطيل معه الحوار؛ لكن موعدي داخل المؤسسة قد حان، باركت له قرارته وشددت على كتفه مشجعا إياه على ما يبذله من قوة، وكم كنت فخورا به! ومنذ ذلك اللقاء، وأنا أراقب هذه الشخصية البطلة في مدرستنا عن كثب، وأدركت أننا كنا لا نبصر وجود كنز حقيقي في مدرستنا، رغم أنه أمامنا دائما، وقررت أن أكتب هذا المقال وغايتي الحقيقية، هي إبراز هذه الجوهرة الثمينة في مدرستنا التي تعمل بعطاء يرى، وطاقات لا ترى، خلال 27 سنة ونحن غافلون عن تكريمه والثناء عليه.

نحتفل هذه الأيام بيوم المعلم، وهي فرصة لتوجيه الضوء نحو جوهرة مدرستنا، رغم أنه ليس بمعلم وإنما شخص بعطاء ألف معلم … لا يعلم العلوم والرياضيات، وإنما يعلم طلابنا دروسا في الحياة.

بكل اعتزاز أقدم للقارئ ولسكان قريتي وطلاب مدرستي الموجه الطلابي القدير الأستاذ حسن جاسم صباح آل خليف «أبو باسل» العنصر الخفي المجهول الذي يقدم الكثير من الإنجازات، والقصة التي ذكرتها سابقا ما هي إلا حصاد من جهده المثمر في طلابنا الذي يعدهم أبنائه، وأنا مدرك أن كثيرا من الطلبة ممن تخرجوا، والموجودين حاليا بكراسي الدراسة يملكون قصصا ومواقف في داخل كل منهم مع الموجه «أبو باسل» فيها رقي تعامله معهم، وإرشاده لهم لطريق الصواب، فهو منارة مشعة، يساعد الجيل الناشئ؛ ليكون بصحة نفسية وفكرية سليمة.

شعار المملكة في المدارس هو التربية والتعليم، ويقع على المعلمين دور التعليم، ويأخذ التوجيه الطلابي الجزء الأكبر في دور التربية، والأستاذ «أبو باسل» مربٍ يعمل بجهد عظيم مدهش لطلابنا، وأنا مؤمن أن العطاء مفهوم لا يمكن كتابته؛ ولكن ممكن رؤيته على أرض الواقع على هيئة أشخاص مميزين و«أبو باسل» واحد منهم.

«أبو باسل» زميل عزيز على قلبي، محبوب من الجميع، يدخل الطلاب غرفته بعراكات وخلافات، ويخرجون بهدوء وقناعة، ملأ الكثير من الفراغات النفسية بالمحبة والود التي عجز الأهالي عن ملئها في أبنائهم، علاقته مع الطلاب لا تقيدها حدود؛ أو عيوب؛ أو مستويات، فالجميع لديه يستحق التقدير، يرى الطلاب أصحاب التأخر الدراسي، أو أصحاب المشاكل السلوكية كمعارك يجب أن يجعلهم ينتصرون فيها، ويكسبونها لصالحهم. فنجح في تقليل عدد الطلاب المدخنين، وانخفضت نسبة هروب الطلاب من المدرسة، وزاد التزامهم بالحضور والتعلم.

يركز على كل طالب مبدع، أو موهوب، ويبدأ بجعلهم يتحدون أنفسهم بأقصى طاقاتهم ليصلوا إلى أعلى الإنجازات. ومن هذا المنطلق أعد دورات في مهارات الحياة، علمتهم الثقة بالنفس وقوة الإلقاء والتميز. ومن شدة حرصه وحبه للطلاب، رتب حصصا خاصة تدريبية لاختبار القدرات وزيادة المستوى التحصيلي، جهده هذا نتج عنه نجاح 95 بالمئة من طلاب المدرسة في اختبار القدرات الوطنية، وقبول طلابنا في تخصصات الطب، والالتحاق بالشركات الكبرى في المملكة.

وفي ربوع مدرستنا تشرق الكثير من التغيرات التي حصلنا منها على العديد من التكريمات، وارتقى وزاد عدد طلابنا المتفوقين حتى أصبحت «مدرسة الأوجام الثانوية» بالمرتبة 7 على مستوى القطيف و 28 بمستوى المنطقة الشرقية و 123 على مستوى مدارس المملكة ككل، بفضل الكثير من عمله الدؤوب والمستمر، الذي يبذله بحب للجميع دون انحياز.

في ظل صعوبات الحياة والمشاكل الأسرية تاه الكثير من طلابنا بانحرافات خطيرة، وهي سبب العديد من المشاكل والفوضى داخل المدرسة، ولم يمل أو يكل أستاذنا «أبو باسل» في محاولة معالجتها، رغم أن تصحيحها ليست من واجباته، فمن خلال مناقشاته الهادئة، وأسلوبه الرصين المقنع وفكره المنطقي الذي يناسب أعمار الطلاب؛ أصبح محبوبا من الجميع.

تأخرنا كثيرا عن شكرك أستاذنا الفاضل، واليوم أنا أبدأ بتقديم شكر عميق وتقدير عظيم وإعجاب كبير لعملك الذي فاق على الآخرين بعطائك الجميل، وأنا متأكد أن من بعدي سيشكرك الكثير من الطلبة والمعلمين وأهالي منطقة الأوجام، وهذا أقل ما نقدمه لشخص هو «نقطة الأصل» في مشاركته تربية أبنائنا معنا، وتغيير الكثير من مشاكلهم بإرشادهم نحو الصواب والسير في طريق النجاح.

هناك موجهون عظماء «كأبي باسل» يعملون بطاقات عالية مجهولة، يمنحون الحب دون انتظار مقابل، يستحقون التكريم، لننظر من حولنا ونبحث عنهم، لنخبرهم أننا ممتنون لهم وسعداء بقربهم.

لن أنسى صدفة لقائي بحارس الأمن، ولا ابتسامة الرضا على وجهه، تعلم منه أنه بالإمكان إخراج نفسك من الظلمة، وعند استشعارك الفشل في حياتك أو ضللت طريق الصواب فقط أرجع لـ «نقطة الأصل» وهي حب واحترام ذاتك؛ لتشحن نفسك بقوة، ولتضيء من جديد من بعد انطفاء، وقد تكون أنت الشخص القادم الذي سيغير حياة شخص ما، وتخرج الأشياء الجميلة منه كما فعل «أبو باسل» ببطل قصتنا وتكن أنت الولادة لـ «نقطة الأصل» الجديدة في قريتنا تكمل بها مسيرة الفاضل «أبا باسل».


التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ابوسيد هاشم
[ المملكة العربية السعودية ]: 7 / 10 / 2024م - 6:27 م
الاستاذ الفاضل ابوباسل يستحق التقدير والاحترام كل الشكر له والى من يسير في طريق تقديم التربية والتعليم في الحياة الاجتماعية في المدرسه لانها الحياة التي لا تنسى من قدم لك الخير ويبتغي من الله الثواب والبركه والخير شكرا من القلب استاذنا الفاضل وانت يابوعدنان تقديم وتسعى وتساعد وتلتمس القلوب المحتاجه للمساعدة وتنور طريقهم الى الطريق الصحيح شكرا من القلب على ما تقوم به في مساعدت ابنائنا