الحوار في القصص القرآني.. سورة ”الكهف“ نموذجًا
بلا شك أن القرآن الكريم جاء هاديًا ومنيرًا للعالمين جمعاء، والقرآن مائدة كبيرة ينهل منها كلٌّ بحسب تخصصه، فعالِم الدِّين يستفيد منه ويستنبط منه الأحكام الفقهية والعقائد الإلهية الحقَّة وهكذا عالِم الفيزياء وعالِم الكيمياء وعالِم الأحياء وهكذا شتى العلوم النظرية والتطبيقية يمكن أن يقرؤوه بوعي آخر بما لديهم من خلفية ثقافية، وهذا من عظمة القرآن الكريم، وفي المجال الأدبي أيضًا ينطبق هذا النهج فالقرآن مصدر أساسي ننهل منه ونأخذ عنه المبادئ والأسس التي بوسعها أن ترتقي بالمجتمعات الإسلامية والإنسانية بشكل عام، فالقرآن قد خاطب الجميع على السواء: المؤمن والكافر والرجل والمرأة، وحين نأتي للقصص القرآني، فإننا نجد فيها من العِبر الكثير والكثير، والذي يهمنا في هذه الإطلالة السريعة أن نخصص الحديث حول الحوار في القرآن الكريم، وقد اخترنا أن تكون سورة ”الكهف“ هي النموذج، فهذه السورة المباركة فيها من أروع الدروس في هذا الفن الذي له من الأهمية الكبرى في النهوض بالأمم نحو الرقي والسمو، فمن خلاله يُرفع اللبس ويتضح الحق بعكس الصراخ والعنف.
ونلاحظ في النص القرآني في سورة الكهف، أن فن الحوار قد ورد في أربع قصص، ففي قصة أصحاب الجنتين نلاحظ تكرار مفردة الحوار بين المؤمن والجاحد لنعمة ربه، كلاهما على السواء، وكان قائمًا على المحاججة، لا العنف والقتال. وأيضًا الحوار الذي دار بين النبي موسى والخضر، وقبله كان بين النبي وفتاه، والأخير بين ذي القرنين والقوم المظلومين.
إن السورة الكريمة ترتكز على موضوع الحوار، وبالطبع توجد مضامين أخرى في السورة، ولكن الذي يهمنا الآن هي إبراز هذه القيمة.
لكنّ تلك الحوارات لم تكن بمستوى واحد، بل جاءت مختلفة وبمستويات متعددة وبدلالات مختلفة، نلخصها في أربع مستويات:
نلاحظ أن الحوار كان بعيدًا عن العنف اللفظي أو العنف الجسدي، وإن كان قد احتوى على تقريع، ولكنه كان بأسلوب هادئ وبطرح عقلائي، فالجاحد كان متكبرًا ومعاندًا، قال تعالى: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ ، بينما المؤمن قد خاطب الآخر بخطاب الفكر والعقل، يحاول أن يذكِّره بماذا كان، وإلى ماذا وصل إليه من القوة واكتمال الخلقة وحسنها. قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ .
إن مفردة الحوار تكررت في سياق الآيتين الواردة عنهما، كلاهما على السواء، ولم يكن من جانب المؤمن أي أسلوب استحقار أو استخفاف أو سخرية وما شابه، وهنا يضعنا النص القرآني أمام دلالة أخلاقية، ومبدأ كبير في فن الحوار مع المختلفين معنا فكريًّا ودينيًّا. وهذا ما يتجلى لنا أيضًا بوضوح في حياة النبي الكريم وسيرته محمد ﷺ، مع مشركي مكة والمنافقين، فقد كان ﷺ يحاورهم، ولكنه يُظهر الحق ولا يخشى لومة لائم.
وهناك أمثلة في القرآن الكريم في موضوع الحوار مع المختلفين معنا في العقيدة، كفرعون الذي تكبَّر وتجبَّر، إلا أن الله سبحانه وتعالى يطلب من النبي موسى وأخيه هارون أن يحدثاه باللين والحسنى ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ .
وهذا المستوى الآخر من الحوار، بين اثنين مختلفين مقامًا ومنزلةً، بين النبي موسى وفتاه الذي يروى أنه خادمه ”يوشع بن نون“، وبلا شك، مقام النبي موسى ، أعلى منزلةً وشأنًا، ولكن التعبير بمفردة فتاه فيه من الرقي، وهو تعبير من الله جل وعلا: ﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ ، وهو درس عظيم لنا في فن الحوار مع من هو أقل منَّا منزلةً، تلك المنزلة التي يهبها الله لمن يشاء من الأنبياء والصالحين، وحياة نبينا محمد ﷺ مليئة بهذه العِبر، ومع كل أطياف المجتمع، سواء من أهل بيته من زوجاته وأبنائه وبناته، أو مع الصحابة الكرام، ومواليه الذين كانوا في بيته، وجميع المسلمين من التواضع في تعامله معهم والرأفة والرحمة بهم.
مع الاختلاف، هل هو نبي أم رجل صالح؟، فالحوار كان بين شخصين ذويّ مقامين عاليين، إلا أنه يعطينا درسًا أنه مهما بلغت من مراتب العلم والمقام الرفيع، فإنك تظل دائمًا بحاجة إلى التزود بالعلم، فالنبي موسى ، على علو شأنه، يطلب من الخِضر اتباعه كي يتعلم منه، قال تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ ، ولننظر هنا إلى الفائدة الأخلاقية، فالنبي موسى ، على الرغم من كونه نبيًا فإنه يطلب بكل تواضع اتباع الخضر من أجل التعلم منه.
كما أن هذه الصورة الحوارية القرآنية تُعلِّم الصبر لكلٍّ من المعلم والمتعلم على السواء، فالخِضر طلب من النبي موسى الصبر على ما يشاهده من أفعال، إلا أن النبي في كل مرة لا يصبر، وينكر، ويغضب مما عمله الخضر، قال تعالى: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ، قال الخِضر ذلك لأن النبي موسى، لن يستطيع السكوت على أفعال الخِضر التي يراها في ظاهرها منكرًا.
قال تعالى: ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا﴾ ، إلا أن النبي موسى يطلب منه أن يصبر عليه، ويلتمس منه العذر على ألا يسأل مرة أخرى.
إن القرآن الكريم يعطينا أجلَّ وأعلى صفات المتعلمين، وهي صفة الصبر على التعلم من أجل الإحاطة بكل مقتضيات ومعطيات الموضوع قبل إصدار الحكم عليها، كما إنه درس على الحث والشمولية من كل الجوانب في الأبحاث العملية بغية الوصول لنتائج علمية رصينة.
إشارة لمن له القوة والملك والعلم ليعين به الضعفاء، ولمن يحتاجونه ليرفع عنهم الظلم والضرر من قِبل يأجوج ومأجوج. هذه رسالة لأصحاب العلم والقوة والسلطان.
قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا﴾ .
إن هؤلاء المستضعفون جاءوا إلى ذي القرنين يطلبون منه أن يخلصهم من ظلم يأجوج ومأجوج، قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ ، فما كان منه إلا أن استجاب لهم بأن أعانهم بما يملك من علمٍ وقوة، وطلب منهم أن يعينوه، قال تعالى: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ ، وهذه إشارة قرآنية لطيفة بأن على الشعوب ألا تكتفي بالمشاهدة الصامتة والسكوت على الظلم دون فعل شيء في حال أرادت التغيير من أوضاعها، أو أن ترتقي من بين الأمم وأن ترفع الأذى عنها، فذلك لا يتأتى بالاتكال على الغير واتخاذ العجز منهجًا من دون أن تحرك ساكنًا، بل يجب عليها أن تعين سلطانها على ذلك، فالملك أو أي مسئول لن يقوم بعمله دون أن تتعاون لديه قوة عاملة، وإلا لن ينفعه علمه وسلطانه، فالأمة بدون القوى العاملة الشابة والقوية والطموحة، ستكون أمة ضعيفة ومهزومة لا نفع فيها. وهنا يتجلى لنا مبدأ مهم ودستور في تعامل الشعب مع ملكه وتعامل الملك مع شعبه، من تبادل للقوى والمنفعة، ولا يقوم ذلك إلا من خلال الحوار الذي يفضي إلى فهم الطرف الآخر لرفع اللبس كي لا نقع في ظلم الطرف الآخر والوصول إلى حلول ناجعة.
وهذا ما يمكن ملاحظته في مواقع أخرى من النص القرآني بالنسبة للحوار وأدبياته، ففي سورة ”النمل“ مثلاً كانت هناك مراسلات وحوار بين النبي الملك سليمان والملكة بلقيس، وهو يبين لنا كيف تكون البروتوكولات والتعاملات بين الملوك.
وفي الحوار بين الأخوين قابيل وهابيل، يضرب لنا الله أروع الأمثال بين الأخوين، فننظر كيف كان جواب هابيل على ما سيقوم به أخوه ليعطينا درسًا عن المعنى القرآني للأخوَّة، قال تعالى: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ .
والأعظم من ذلك الحوار مع خالق الكون وجبار السموات والأرض الله سبحانه وتعالى ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ ، فالقرآن الكريم مليء بأنواع الحوارات نتركها لمكانها.
وأخيرًا نلحظ أن القرآن الكريم في سورة ”الكهف“ قد قدَّم لنا مبادئ ودستورًا في الحوار مع الآخر، مع بيان تنوع مستويات ذلك الحوار واختلاف أشكاله وألوانه بين كل أطياف المجتمع، حيث أولى للحوار أهميةً خاصةً، لما فيه من ارتقاءٍ بالأمم.