تسطيح أميركا
ونحن على أعتاب موسم الانتخابات الأميركية، نجد معظم وسائل الإعلام العربي مستمرة في استهلاك القوالب الجاهزة للصورة النمطية لأميركا. ويكفي أن تشاهد برامج التحليل السياسي لترى ذلك المحلل الألمعي يقول كلاماً على شاكلة «من المعروف أن الحزب الجمهوري...» أو «إن الحزب الديمقراطي دائماً ما...» لتعرف مستوى التحليل السياسي في قنواتنا الفضائية المتخصصة في الأخبار. والأمر نفسه ينسحب على المقالات والتحليل السياسي الذي نقرأه في كثير من صحفنا العربية. أقول الغالبية، وليس الكل حتى لا نجحف المجيدين حقهم.
إن أبرز تلك القوالب الجاهزة التي يسوّق لها أولئك الأشاوس عند حديثهم عن السياسة الأميركية أن الجمهوريين أكثر ميلاً لإشعال الحروب من الديمقراطيين. وعندما تسألهم عن المستند التاريخي لذلك، يجيبونك بجواب التغلبي عندما تُنحنح للقِرى بحسب وصف جرير. فلا إجابة لديهم، ومن سيحاول الإجابة سيذكر لك بوش الأب والابن وحربيهما في العراق وتدخل الأخير في أفغانستان، حتى كأن التاريخ العسكري الأميركي مختصرٌ في هاتين الحربين!
إن النظرة القائمة على تاريخ قريب جداً يلامس منطقة واحدة فقط من العالم إنما تدل على ضيق الأفق بِبُعديه التاريخي والجغرافي. فنحن في العالم الإسلامي لسنا حجر الزاوية في السياسة الأميركية، والعقود الأخيرة ليست وحدها ما يجعلنا نحكم على سياسة القوى العظمى.
ولنكن أكثر حرفية، ونقارن الفارق بين الحزبين في مسألة إشعال الحروب، لنرى أن:
الحزب الجمهوري أدخل أميركا في خمس حروب هي: الحرب الأهلية الأميركية «1861 - 1865»، حرب تحرير الكويت «1991»، حرب أفغانستان «2001»، غزو العراق «2003»، وما يُعرف بالحرب على الإرهاب التي بدأت أعقاب هجمات 11 سبتمبر «أيلول» 2001.
الحزب الديمقراطي أدخل أميركا في سبع حروب هي: حرب 1812مع بريطانيا العظمى، الحرب المكسيكية - الأميركية «1846 - 1848»، الحرب الأميركية - الإسبانية التي اندلعت عام 1898، الحربان العالميتان الأولى والثانية، حرب كوريا «1950 - 1953»، وحرب فيتنام «1955 - 1975».
بالتأكيد، فإن بعض تلك الحروب قد تم التناوب على قيادتها من كلا الحزبين من خلال الانتخابات التي أتت برؤساء من الحزب الآخر - الذي لم يبدأ الحرب - ليكمل الرئيس الجديد ما بدأه سلفه المنتمي للحزب الآخر. ولكن يهمنا هنا: من بدأ الحرب، لأنه من سلّمها للقيادة التي تليه.
بنظرة سريعة على سجل الحزبين، نجد أن الديمقراطيين قد بدأوا حروباً أكثر عدداً وأشد شراسة. بل إن الحروب المطبوعة في الوجدان الأميركي بوصفها حروباً كان بالإمكان تلافي الدخول فيها كان معظمها ضمن تلك التي خاضها الحزب الديمقراطي، ويكفي نموذج حرب فيتنام مثالاً على ذلك، وهي الكابوس الذي لا يزال يحوم على واشنطن بالعار من الهزيمة النكراء.
لسنا هنا بوارد تبرئة الجمهوريين، فلديهم تاريخ دموي ليس بالهيّن. ولكنّ المقصود فقط أن يُراجع الشخص المادة التي يريد أن يلقيها على المتلقي قبل أن يكتبها في مقال أو يقولها في مقابلة، فالتقنية الحديثة سهّلت للعامة مراجعة ما يتلقونه في الإعلام والحكم على مستوى الكاتب أو ضيف القناة. ربما تكون الخطوة الأكثر فعالية أن تبدأ الصحف والقنوات بمراجعة محتوى كتّابها وضيوفها ومحلليها ومن ثم تسائلهم عن المصادر التي استندوا إليها. ذلك هو السبيل الأنجع لحماية إعلامنا من الجهل وقوالبه الجاهزة.