آخر تحديث: 23 / 10 / 2024م - 4:13 م

النهر المعلق

محمد العلي * مجلة اليمامة

ستضحك حتى تفحص الهواء برجليك على هذا العنوان، وستنهمر في ذهنك الاحتمالات: لقد أراد هذا الكاتب أن يكتب: «الجسر المعلق» ولكنه كان ذاهلا في تلك اللحظة، فأخطأ وكتب: «النهر المعلق» أو لعل الآلة الكاتبة أخطأت، وكتبت النهر بدلا من الجسر، أو أنها متعمّدة، مثل رئيس تحرير إحدى المجلات حين قرأ عنوان ديوان نزار قباني «طفولة نهد» احمرّ خجلا وغباء وتبلّدا، وكتب العنوان «طفولة نهر» ومرَّغ شاعرية نزار بالتراب.

هناك قصة شيّقة، رواها الناقد الراحل رجاء النقاش، يقول مضمونها: إن رساما ماهرا، قضى دهرا يرسم لوحات جادّة، ولم يلتفت إلى لوحاته أحد، في حين أن المدّعين والنصابين تُغدق عليهم الأموال من لوحاتهم، ويحظون بإعجاب النقاد، فشكا حاله لأحد أصدقائه، ونيّته على ترك الرسم، فقال له صديقه: ابتكر شيئا غريبا، أنكر وجود الحركة والسكون، أو الأبيض والأسود، وارسم أشياء غريبة وبلا معنى، وسم مدرستك «المدرسة المثالية التحليلية» وإذا سئلت عن معنى اللوحة، فانفخ في وجه السائل وقل له: «هل تأملت في حياتك نهرا؟» فرسم عدة لوحات بلا معنى، فتدفق عليه الإعجاب، وانثال المال، وحين قال له صديقه: أرأيت كيف صنعت لوحاتك التافهة؟ فقال له بغضب: إنها في غاية الروعة، وحين قال له صديقه: اشرح لي معناها، نفخ في وجهه وقال: «هل تأملت في حياتك نهرا؟»

لعل كاتبنا قرأ هذه القصة، وكلما أنشد قصيدة جوفاء، وسأله أحد عن معناها، نفخ في وجهه صارخا: «هل تأملت في حياتك نهرا معلقا» وبهذا يكون تعبيره عن الحالة أكثر إغراء بالضحك من صاحب القصة الأصلية؛ لأن تأمل الأنهار سهل على كل ذي عينين مبصرتين، بخلاف النهر المعلق؛ فتأمله محتاج إلى نظر عميق. ثم لماذا نحس بالغرابة في تعبير النهر المعلق؟ لماذا لا نفتح أذهاننا المقفلة للتعبيرات الجديدة؟ بل لماذا لا نتخيل أن النهر له ضفتان، ولكن لا قاع له، أما لماذا لا ينسكب في الهواء الطلق؛ فذلك لأن في داخله جاذبية ذاتية للتماسك، فهو نهر مخالف لطبيعته المائية السائلة، وهذه هي الغرابة بلا ضفاف.

هل تود السباحة في هذا النهر؟ إذن عليك أن توسّع عينيك، وتستعير جناحي الهدهد؛ لتبلغ المقام الرفيع لـ «سي مرغ» أما أنا حين تسألني عن معنى هذا المقال، فسأنفخ في وجهك صارخا: «هل تأملت في حياتك نهرا معلقا؟».

كاتب وأديب