آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:15 م

المواطنة بين الإيديولوجيا والرؤية المدنية للدولة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

المواطنة مفهوم، مشتق من الوطن، يرتبط في تطبيقاته بالدولة الحديثة، التي نتجت عن عصر الأنوار الأوروبي، والثورة الصناعية، والثورات الاجتماعية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحديداً مع الثورة الفرنسية عام 1789، وإذاً فالمعنى، وافد من خارج الإطار المعرفي العربي.

يشير مفهوم المواطنة إلى المساواة والندية وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتصبح عنوان الهوية، وأول من قال بالمواطنة، هو الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي اعتبرها من أساسيات المجتمع المدني، واقتصرت ممارستها على أناس مؤهلين، واستثنى العبيد والنساء والبرابرة، من ممارسة المواطنة، باعتبارهم «غير مكتملين إنسانياً».

التطورات التاريخية، والثورات الاجتماعية فرضت الانتقال، من المفهوم القديم الذي سادت فيه الإمبراطوريات، والحكم المطلق، والذي يعد الفتح، بالرضا أو القوة، من أساسيات نشوء الكيانات الكبرى، إلى مفهوم الدولة المبني على العلاقة التعاقدية، وعناصر المواطنة، هي الأرض والسيادة والعقد الاجتماعي، هذه التطورات لا يوجد ما يماثلها في البلدان العربية، بسبب مواريث ثقافية سكنت في اليقين طويلاً، ولتعطل النمو في الهياكل الاجتماعية، الذي هو نتيجة طغيان الاستبداد العثماني على الأمة، لقرون عديدة.

مبدأ «المواطنة» يعد الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي، وتستند المواطنة، إلى مشتركات ثقافية، ويعزو الباحثون بروز هذا المبدأ، بظهور الدولة الحديثة، التي ارتبطت بعصر القوميات، ونشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية لحدود كل دولة من خلال اعتراف الجيران وبقية دول العالم، بسيادتها ضمن هذه الحدود.

وإلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الأولى ونشوء عصبة الأمم، استمر الاعتراف عملياً بحق الفتح، الذي يتيح للإمبراطوريات التوسع في ممتلكاتها، على حساب الأمم الأخرى.

في ظل دولة المواطنة، يعيش المنتمون للدولة، تحت خيمة الوطن، يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديموغرافي أو الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزاً في الحقوق على الآخرين، والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلاً إيجابياً، يضيف قوة للمجتمع ولا يأخذ منها.

العقد الاجتماعي، ركن أساسي في دولة المواطنة، وترسخ حضوره، بعد صدور كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو «1712 1778»، الذي وضع تصوراً متكاملاً عن فكرة العقد، وقد أثرت نصوصه في صياغة الدستور الأمريكي، عام 1784.

لم يكن روسو أول من تنبه لفكرة العقد الاجتماعي، فقد تأثر بكتاب الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة للكاتب الإنجليزي، توماس هوبز «1588 1679»، وبكتاب اتفاقيتان للكاتب الإنجليزي أيضاً، جون لوك «1632-1704»، وكتاب روح القانون للفيلسوف الفرنسي مونتسكيو.

تصور هؤلاء الفلاسفة أن الدولة ينبغي أن تقوم على نظام اجتماعي تعاقدي، يعبر عن توافق أبناء الأمة، ويمثل الإرادة العامة للمجتمع، وقد طور روسو هذه النظرية، لتتحول مع الأيام، إلى تعبير عن سيادة دولة القانون، واحتكار الدولة لسلطة الإلزام.

وفقاً لعقد روسو، يتساوى جميع أعضاء المجتمع السياسي، ويشتركون في ملكية أرض الوطن وموارده، وهم أيضاً شركاء في القرارات المتعلقة بهم كمجموعة، والفرد حر في أفعاله، إذا لم ينص القانون بخلاف ذلك. ومهمة القانون والدولة، هي ضمان حريات الأفراد وحقوقهم، والمجتمع هو فوق الدولة وهو سيدها.

في تحديد مفهوم الإيديولوجيا، تواجهنا مشكلة ابستمولوجية، تتعلق بسعة مدلولات المفهوم وتنوع استعماله، وبالتالي، غياب تعريف محدد متفق عليه، سوف نتناولها هنا بمفهومها الكلي، باعتبارها منهجاً عقائدياً شاملاً، وظاهرة بأبعاد وأوجه معقدة، اجتماعياً وثقافياً وسيكولوجياً ومعرفياً، وليست مجرد مدلول سياسي، ذلك لأن الإيديولوجيا في بعدها السياسي، تقتصر على تناول العلاقة بالخيارات والمؤسسات السياسية المختلفة، في حين يبرز بعدها الاجتماعي، علاقتها بالمجتمع ككل، وبمؤسساته، أما البعد السيكولوجي، فيتلخص في علاقته كظاهرة اجتماعية، وفكر جماعي للذات، وباللاوعي والوجدان والرغبة.

والإيديولوجيا نقيضة للعلم، ذلك أن المهمة الأساسية للعلم، هي المساعدة على اكتشاف هذا الكون، وقهر الطبيعة، وافتراضاً تحقيق قدر أكبر من الرخاء والعيش الكريم للإنسان، وهو في كل هذا يفترض فيه أن يكون وصفياً، حيادياً، كمياً ودقيقاً، أما الإيديولوجيا، فمهمتها تحديد رؤية معرفية، للكون وللمجتمع والإنسان، تتبلور في صياغات وأطر تمنح ذاتها، مواقف وأدوات، تعتقد أنها تقربها من طروحاتها في شتى مجالات الحياة.

إنها بمعنى آخر، موقف من الأشياء ومناهج تمد بقواعد من السلوك، وهي في هذا يفترض أن تكون تعبيراً عن أفكار قيمية، تعبوية هدفها الأساسي، ليس المعرفة، بل العمل، هذا يعني باختصار، أن مهمة العلم، هي اكتشاف هذا الكون، بينما تتكفل الإيديولوجيا بتحديد موقف منه.

تتناقض الإيديولوجيا مع الواقع، لكنها تتقاطع في كثير من الأحيان معه. في هذا السياق، يرى الدكتور محمد عابد الجابري، أن منطق الجماعة لا يتأسس باستمرار على مقاييس معرفية، بل على رموز مخيالية تؤسس لموقفها من الأشياء، ومن وجهة النظر هذه، فإن المواقف والرؤى تتم بمعزل عن كل استدلال.

إن المرء قد يتساهل في مواضيع المعرفة، لكنه يرفض أن يمس في معتقداته، وهو في الوقت الذي يمكن أن يضحي بحياته دفاعاً عن معتقده، فإنه ليس متوقعاً منه أن يستشهد لكي يقيم الدليل على صحة قضية معرفية، فالناس «يموتون من أجل ما يعتقدون، وليس من أجل ما يعرفون».