أبو عبد المعطي التركي: غواص في بحر التراث، ألقى مراسيه ورحل «2-3»
تتدفق ذاكرة أبي عبد المعطي المتخمة بصور شتى، لمشاهد بحرية عدة. فيسترسل في استحضار زمن الغوص قبل بداية مشواره السنوي إلى وقت انقضاء الموسم، ملِمًّا بجزئيات وأسماء جماد وبشر، وما على الماء المالح وماتحته وفي قاعه، وحالات المد والجزر، وتمددات الموج وهيجانه، وسخونة وبرودة الأمكنة بين «گراح» وعمق، واتجاهات المغاصات وتراتبيتها في البعد والقرب، وتنوع الحان النهمات حسب نوعية العمل، وقراءة الديرة وأوقات «الولمة». تجري المصطلحات البحرية العتيقة على لسانه منسابة عن ظهر قلب، من بناء السفن وأجزائها إلى طريقة فلق المحارة وتفصيلاتها، وأنواع الدانات وأجودها وأدناها، إلى تلاقف الأيدي والكفوف، وتثمينات الطواويش، وتضاريس الگوع، ومسميات الهيرات وأفضلها، المعروفة منها والمهملة والخطرة. لديه قراءة تسجيلية تصورية محسوسة لكل ما يتعلق بالبحر كأنه يعرض شريطًا سينمائيًا موثقًا في تلافيف ذاكرته.
كيف تسنى له استيعاب كل هذا الكم واستحضار وتذكر كل شيء حتى بعد أن بلغ من العمر عتيًا؟ فقد عُدَّ كمرجع للمتمرسين في التراث والضالعين في عوالم البحر. لا عجب، فهو ابن نوخذة أبًا عن جد. ولولا أنه خبر عباب البحر واقتحم لججه منذ طفولته المبكرة مرورًا بمرحلة الصبا «تبابًا»، إلى عنفوان الشباب غواصًا، ثم موظفًا في رأس تنورة وكبتنًا في إحدى سفن أرامكو، مرتحلًا لموانئ الخليج وبحر العرب وسواحل الهند لمدة أربعين عامًا، لما عرف كل ذلك عن دراية وفهم وعلم.
اكتساب متراكم مع تفتق حواسه ومناغاة الكلمات الأولى بإدراك ملامح الوجوه، فالتقط لفظة البحر من أهازيج نسوة البيت «”وين راح البابا؟ راح البحر. من وين جا البابا؟ جا من البحر. ويش جاب أبي؟ جاب دانة عودة“». وعي تربى عليه وتنفس، بتعقب خطوات أبيه، يمشي على هديه، سمع حكاياته منذ نعومة أظفاره تحت أسقف منزلهما العامر بالدور والغرف الحاضن لعائلة التركي بأكملها والتي توزعت بعد عقود من السنين خارج نطاق الديرة، جزء سكن منطقة الجفرة والدشة الشمالية والوقف، وبعضهم ارتحل إلى سنابس.
عائلة عريقة لها تمددات في الأنساب والأقارب داخل نطاق الجزيرة وخارجها، شكل منزلهما الذي تفرعوا منه مكان جذب للمعوزين والجوعى.
سنين البطاقة
الحرب العالمية الثانية «1939-1945 م» حرب عظمى دامت ست سنين خلفت ضحايا بالملايين وشلت الملاحة في البحار، فألقت بظلالها السوداء على الخليج والوطن، فحركة التجارة من وإلى الهند تقلصت وشبه توقفت، فلا سلوق يُصدر ولا أرز وسكر وطحين يُستورد، وكل مواد البناء والأدوات البحرية شبه انعدمت من أسواق القطيف والمنامة.
سنين البطاقة سميت بهذا الاسم نسبة للحصة التموينية، وهي مواد غذائية قليلة تحتوي على تمر وطحين تصرفها الحكومة بالبطاقة لرب العائلة، لكن الأرامل والأيتام في خانة النسيان.
ما أجمل الإيثار!
ما أجمل الإيثار، خصوصًا وقت الأزمات حينما يفزع الأثرياء أو المقتدرون لمداراة الضعفاء ومسح دموع المعوزين. وها هو بيت آل تركي الكائن بالديرة، القريب جدًّا من قلعة تاروت شرقًا، يفتح أبوابه بعد مغيب الشمس. اصطفاف نساء وأطفال ورجال يتضورون جوعًا، كل واحد منهم يمسك صحنًا ليأخذ نصيبه من غرفة رز من «الگدور» التي تطبخها نساء آل تركي. طابور ممتد من دروازة البيت وعبر زقاق ضيق أبعد من بيت سيد أسعد الدعلوج غربًا، وآخرون مصطفين بمحاذاة جدار بيت آل عيد شرقًا وصولًا حتى منعطف بيت سليس وأطراف بيت مدن. تسمع الأنين والبكاء وترى ارتجاف الأبدان من شدة الجوع. من يأخذ رزقه القليل يرسل دعوات لأصحاب المنزل العامر بجود وكرم ناسه «دفع الله عنكم كل نائبة وكل بلاء».
مشهد رآه أبو عبد المعطي بأم عينيه، لأمهات بأسبالهن البالية يحملن أولادهن الذين لم يكفوا عن الصراخ، أجساد هزيلة والعيون جاحظة، وسط الأجواء الخانقة.
”إكساره“
أمرت الحكومة بتفتيش المنازل لكل من يخزن التمر، بأخذه منه وتجميعه في بيت المال في إحدى بيوتات الديرة. وبين يوم أو يومين يأتي موظفان «فداوية» ليوزعا على العوائل بضعة فردات تمر من أمام مسجد «الشيخ علي» الذي يقع وسط الديرة. والضابطان لعدم تدافع الناس: الشاب عبد الوهاب الصيرفي مفتول العضلات وابن أخته شديد البأس عبد الله الشواي. هذه التوزيعة تسمى شعبيًا «إكساره».
يشتد التفتيش مرات ومرات، ويا ويل من يُكتشف عنده كمية تفوق حاجته. لكن بيت آل تركي لديهم «چندودين» - الچندود دار خاصة بتخزين گلات التمر - أظهروا واحدًا وأخفوا الثاني عن عيون العسس، بتغطية الگلات بكومة من سعف وتلال وكرب الطبخ، حيث تقوم العائلة بتوزيعه سرًّا بطرق بيوت الفقراء بين الفجرين.
سنوات العوز
سنين البطاقة: قحط وعوز وذل وضياع وحالات فقر مدقع، وكم نفس فارقت الحياة بسبب شح الأكل. فلا النخل لك حرية التصرف فيه، ولا الطعام المخزن في بيتك تستطيع الحفاظ عليه لمدة أطول، فالرصد والمتابعة تنال الجميع من أجل تساوي الجميع، بقصد ”لا غني يشبع ولا فقير يبكي جوعًا“. نوايا سامية، لكن عند بعض الأقطاعيين الجشعين ”نفسي نفسي“!
الحاج أبو عبد المعطي يستذكر مشاهد يشيب لها الرأس وقت سنين البطاقة حيث يقول:
”شفنا ذاك البعيد، الله لا يعوده إن شاء الله. إذا دخلوا الخشب في الرفيعة أو دارين، تجيء حريم، والله ويش أقول لك، ما يطالع ذاك... والله ديودها مطفقة من الجوع وعندها إن كان ولد حاملتنه، تلقي حظنها حق نفاض السفرة من السفن. ويش أقول لك، حالة، والله ما تنطرى“.
هن مجاميع نسوة هائمات على وجههن ليس لهن معين، أمهات فقدن أزواجهن قبل خمس أو سبع سنوات، جراء «تسونامي» اجتاح المنطقة بل الخليج كافة، وهو ما عُرف «بالسايبة» أو «سنة الطبعة - 1925 م» التي غرقت جميع السفن «طبعت» برجالها وهي عائدة ليلًا بعد صلاة العشاء عند نهاية موسم الغوص حيث كانت الأجواء هادئة. هبة عاصفة شديدة فجائية لم تبقِ ولم تذر، ولم تكن في حسبان البحارة ولا حسابة الأنجم. الناجون قليلون أو من عادوا قبل وقوع الكارثة، خلق كثير فارق الحياة، ففي كل بيت نياحة. لقد امتلأ البحر بالجثث الطافية من جنسيات خليجية مختلفة. كارثة بلغ عدد ضحاياها 8000 شخص، بعضًا منها نهشتها أسماك القرش والهوامير، وكثير منها رماها الموج على شواطئ الخليج وعرض البحر، جزء منها مقطع الأوصال. شوهدت أجساد ألقاها اليم على طول ساحل سنابس والرفيعة ودارين.
هبّ رجال الجزيرة لحفر القبور بعيدًا عن المقابر الرئيسية، وسط نقص في أداة الحفر «الصخين» والتي جُمعت من قرى القطيف. تم الحفر على امتداد سيف الرفيعة، جثث قُبرت عرايا دون تغسيل ولا تكفين ولا حتى صلاة من كثرة الأجساد المهترئة والناس في كرب عظيم.
يزفر أبو معطي ما لفظته قريحة الشاعر عيسى المحسن التاروتي الذي شهد الواقعة وصورها عبر زهيرياته المشهورة:
«يا هي سنة سنت علينا بجورها وجفت.
والغادرة ملها علينا حقوقها وجفت.
بتنا بليلة غدر محنا بها معتاد.
سفن البحر عافنا ما شد إلينا عتاد.
طحنا على وجوهنا محنا بفكر لعتاد.
صحنا يا أبا الغيث يا حيدر علي الكرار.
صحنا يا أبا الغيث يا علي وجفت».
ويردف أبو معطي أنفاس الحزن على لسان الشاعر حمد علي لحمود أبو جابر - تاروت -:
«يا ليلة صار فيها الويل والصايح.
كم غريق وكم نادب وصايح.
يا ما سفن شالها الطوفان بالصايح.
فرت عقول الخلق وتفارطت داوية.
وكم حرة من خدرها فرعت داوية.
تنشد عن أهل لها وعقولهم داوية.
جاوبت ما جاوبوها غير بالصايح».
ويكمل توضيحًا:
«يعني ليها زوج، ليها أبو، ليها أخو، ليها ولد، طلعت الأحرار يعني الحريم طلعوا على الأسياف تفرعن».
أي تشتت وضياع، ولسان حالهن يردد «الكدادية راحوا عنا، ناكل الحزن واللوعات». تمدد الزمن بأيامه الموحشة واختلطت السنون بالجفاء وضيق اليد. أرامل هائمات على وجوههن يستصرخن في بؤس، وفتيات فقدن آباءهن تقطعت بهن السبل، ينظرن للبحر بغضب وحنق، وأمل لقدوم الغريب الساعي للتزود بماء عين العودة. يأتين لساحل الرفيعة حيث رسو المحامل، يطلبن من البحارة القادمين بقايا طعام، يُرمى لهن في أحضان ثيابهن المهترئة، متلهفات ليسد جوعهن بحبات رز.
الرفيعة: تاريخ مطمور
الرفيعة اكتشف تحت أديمها كنوز أثرية سحيقة وهي تاريخ مطمور لأمجاد وفواجع البحر، إذ اعتُبرت البوابة البحرية الوحيدة، فقد شُيد على ساحلها أول «گمرگ» في جزيرة تاروت. ظلت بقايا جدار لحجرة مطلة مباشرة على البحر حتى منتصف السبعينيات، تمكن كاتب السطور من تصوير ذاك الأثر النادر الذي غاب عن الذاكرة. بُني بجواره شمالًا «گمرگ» صغير من «البورتابل» ذو لون أزرق، هُجر بعد زمن. وأيضًا شهدت الرفيعة بناء ثاني مطار على مستوى المملكة الذي أُطلق عليه «مطار دارين»، فضاء مفتوح لأرضية مستوية شبه مسطحة تحدها غربًا تلال أثرية. يشير أبو عبد المعطي بأنه سمع عن هبوط طائرة قادمة من البحرين ولم يدركها بعد، لكنه رأى شيئًا آخر لم يتحدث إليه أحد، حيث يقول: «”شفت لنج بحرية برية طلعت من البحر وجت إلى مزرعة أبو عايشة“»!
بين الطبعة والبطاقة
المشاهد الصغيرة تغرب عن البال ويبقى الحدث الأبرز ماثلًا للعيان، فما بين الطبعة والبطاقة أربعة عشر عامًا، وأثر الأخيرة لاحت بوادرها بعد أن قصفت أربع طائرات إيطالية معامل تكرير النفط التابعة لشركة بابكو في جزيرة سترة بالبحرين وشركة أرامكو في الظهران فجر 18 أكتوبر 1940 وقت السحور، لم تحدث خسائر بشرية بل بعض الأضرار في أنابيب النفط. هجوم من قوات المحور لمنع تزود قوات الحلفاء بالوقود.
بهذه الأجواء المشحونة بالمرعبة تعطلت الملاحة في الخليج خصوصًا بواخر النقل، وبقيت تجوب البحر سفن الصيد والغوص وقوامهم مجداف وشراع لحراك المحامل.
ارتدادات سنة الطبعة
لعذابات سنة الطبعة ارتدادات موجعة عائليًّا ومجتمعيًّا وبيئيًّا، كم امرأة كرهت أكل الأسماك لأنها رأت داخل بطن هامور إصبع يد أثناء شق بطن السمكة تجهيزًا للطبخ. وذاك البحر بلونه الفاتن امتلأ بأخشاب طافية هي بقايا سفن التي تهشمت، تم تجميعها كمن يصطاد أسماكًا تائهة للانتفاع منها كقطع غيار لإصلاح السفن الأقل تضررًا.
بعد المأساة التي شكلها غضب الطبيعة، وفقدان الأهالي لفرسان البحر، رمموا أنفسهم من الأوجاع والأسقام التي حلت بالديار، كما رمموا سفنهم، لأن البحر بغضبه وغدره يظل مصدر رزق لا ينتهي.
ورشة عمل في الرفيعة
تحولت ساحة الرفيعة لورشة عمل لترقيع ما يمكن إصلاحه من السفن المتضررة، هب «الگلاليف» لعمل ليس بوقتهم، ففي العادة يقومون بصيانة المحامل قبل موسم الغوص بشهر.
وحرفة «الگلافة» تنقسم إلى قسمين:
* قلاف صيانة: يقوم بتعديل «الفتيلة» أو تغييرها، وهي خيوط قطنية لسد الفراغات بين الألواح الخشبية، ويضع «اشخاصة»، وهي استبدال جزء من ألواح السفينة بغيره أكثر قوة، وأيضًا يقوم بنزع عدد من المسامير القديمة الصدئة واستبدالها بجديدة.
* قلاف صانع: ويُطلق عليه أستاذ، هو مهندس السفينة من الألف إلى الياء حسب طلب النوخذة أو التاجر، ويكون بمعيته عدد من العمال.
كلهم يُطلق عليهم «گلاليف» وليسوا نجارين، هؤلاء مختصون فقط في ترميم وصناعة السفن الخشبية، ومهنتهم تحتاج إلى هندسة وفن وصبر، بحسب ذاكرة أبي عبد المعطي الذي لديه تفصيل كامل لبناء السفينة قطعة قطعة، ومراحل بنائها، وعدد أسماء أشهر القلاليف:
* سلمان العبد العلي «القلاف»
* ضيف القلاف
* سيد إبراهيم أبو علوي الهاشم
* علوي بن سيد صالح - القطيف -
والأخير صانع سفن.
هؤلاء الرجال المهرة قاموا بصيانة أغلب السفن المنتشرة على امتداد ساحل سنابس. بعضًا منهم قدّم لهم الطفل عبد الله التركي «ريق الضحى»، حيث تعطيه زوجة عمه «عبيدية» عصيدة ذات نكهة فواحة موشحة بالسمن البلدي، وعند الظهر يحمل صحن المحموص لذيذ الطعم الذي طَبخَته زوجة ولد خاله أم علي محمد عليوات - والدة أبي عبد الخالق -. صبي محبوب عند أهله والگلاليف والبحارة، فهو ابن النوخذة تركي حسين التركي، أحد كبار النواخذة، يُلبي توصيات أبيه طمعًا لقبول رضاه، فجائزته أسفار البحر.