آخر تحديث: 3 / 12 / 2024م - 7:35 م

مذكرات امرأة تزوجت قارئًا

يوسف أحمد الحسن * مجلة اليمامة

بعد عقد القران، وعندما أراد إلباسي خاتم الخطوبة، تأملت الخاتم فإذا بي أرى به نحتًا دقيقًا لمجسم صغير لكتاب. فرغم أنه كان مذهّبًا فقد قلت في نفسي ربما لم يجد غيره، أو ربما كان يريد به إرسال رسالة لي. لكنه في أول لقاء بعد الخطوبة أهداني كتبًا نفيسة من تلك النوعية ذات الأغلفة الفاخرة جدًّا؛ وعندما فتحتها لكي أقرأ الإهداء قرأت:“إلى فتاتي القارئة أهديك بعض الكتب وقلبي”. «لماذا قدم ذكر الكتب على قلبه!» أسررت في نفسي.

وعندما بدأنا الحديث ونحن على طاولة العشاء لاحظت أنه يستشهد باستشهادات غريبة لم آلفها من قبل، وإن كنت قد أحببتها؛ استشهادات لشخصيات تاريخية وأدبية سوف أذكر لكم بعضها في مذكراتي هذه. فقد قال لي مثلًا إنه يحبني كما أحب تولستوي حبيبته صوفيا في روايته! وعندما انتهى لقاؤنا رحت أبحث في مكتبتي عن تولستوي وكيف كانت علاقته بحبيبته.

كنت أعتبر نفسي مثقفة من الدرجة الأولى، لكنني ومع تعدد لقاءاتي به أكتشف كل يوم أنني لا أفهم شيئًا في الثقافة، وأن أسئلتي أكثر من إجاباتي.

عندما اختلفت مع إحدى قريباته وقالت لي”أنت قبيحة“، رد عليها فورًا: وما دخلك أنت بجمالها أو قبحها؟ إنني أراها أجمل مخلوق على وجه الأرض. ثم قال:

وعشقتها شمطاء شاب وليدها *** وللناس فيما يعشقون مذاهب

سألته ذات مرة: ”كيف تراني؟“، فأجاب: أراك كما يرى بورخيس الجنة. التزمت الصمت وتظاهرت بفهم ما يقول، ثم سارعت - عندما خرج إلى مكتبته الضخمة - لكي أعرف ذلك، وعلمت - بعد جهد جهيد - أن بورخيس كان يرى الجنة مكتبة عظيمة!

وعندما سألته كيف هي منزلة النساء عنده أجابني: «النساء أولًا»، حتى لو كان الرجال مع النساء في سباق على الانتحار. وقد استغرق الأمر مني مدة للبحث في بطون الكتب لكي أعلم قصة هذه المقولة.

أحببت أن أعرف كيف ينظر خطيبي إلى الحب فكان جوابه: الحب جحيم لا يطاق، والحياة بدون حب سعادة لا تطاق. حينها ابتسمت رغم أنني لم أفهم مقصده إلى اليوم، لكنه فاجأني بالقول إن ابتسامتك تشبه ابتسامة الجيوكندا! فاحترت فيما يقصد؛ هل يقصد أنها جميلة؟ أم غامضة؟ أم الاثنتين؟

وفي ليلة رومانسية حالمة كنا نتحدث عن الحب، ومتى يصل إلى الكمال، فأجاب:”الحب الحقيقي مثل القمر عندما يكتمل“، فبادرته: ومتى ينتهي؟ فأجاب:”الخسوف هو نهايته عندما يلتقي بالخيانة“. حينها سألته كيف يرى الصداقة بين الرجل والمرأة، أجابني:”الصداقة يمكن أن تتحول إلى حب، لكن الحب لا يتحول إلى صداقة“، كما قال غوتة. ليلتها سهرت حتى الصباح أطالع في أفكار غوتة عن أمور الحياة.

سألني ذات مرة: كيف ترين الحب حين يخبو؟ فأجبته: «كطبخة أكلنا نصفها ونسينا المتبقي منها مكشوفًا فتغير طعمها وتعفنت!» فقال: وكيف نحافظ عليه؟ فقلت له: «نداريه من حسد الحاسدين كما نغطي الطعام خوف الجراثيم، لا بد من بعض البرودة في الحب؛ كما نضع الطعام في الثلاجة للمحافظة عليه، ثم نتناسى الخلافات ويعود الحب دافئًا ثانية؛ كما نسخن الطعام حتى يصبح طعمه أفضل».

سألته كيف كان يقضي وقته قبل الزواج فقال:”لقد عوّضتني القراءة عن الأصدقاء الذين لم يبقوا، عن المدن التي لم أزُر، عن الطرقات التي لم أقطع، لقد أنرتُ زوايا وحدتي بالكتب“، تمامًا كما قالت أجاثا كريستي. سألته: لكن ما هذه الحياة التي عنوانها القراءة؟ قال: كلما كنت أفرح كنت أقرأ؛ وحين أشعر بالحزن أهرب من نفسي بالقراءة؛ أشعر بالتفوق أو الفشل فأزداد بالقراءة؛ تداهمني الخيبات وأشعر أن لا جدوى من الحياة فألوذ لحياة أخرى بين الكتب. «نورا قاسم».

وحين سألته عن الذي حققه في محاولة تثقيف نفسه أجاب: هو أنني بدأت أرى جهلي أكثر فأكثر؛ لأن زيادة المعرفة تعني الوعي، والواعي يدرك أولًا عجزه، كما قال ديكارت. لم أنم تلك الليلة للتعرف أكثر على أفكار ديكارت.

وعندما سألته عن بيت الشعر الذي يخطر بباله الآن أجاب:

لقد شقشق الشوق شوقي فشاق شوقي لك - فهل شقشق الشوق شوقك كشوق شوقي لشوقك؟

وإن شقشق الشوق شوقك كشوقي - فشوقي أشق شوقًا من شوقك

وفي آخر لقاء لنا قبل حفل الزواج سألته: ماذا تصنع حين تقع في مشكلة عويصة؟ ففاجأني بالرد: في كل مرة أقع في مشكلة أعيد قراءة كتاب «فن اللامبالاة».