«أيام الماعز» وأفلام «الماسالا»!
لا تختلف رواية «أيام الماعز»، عن الفيلم الذي حمل اسمها، كلاهما يتخفف من القيود المهنية لصالح الحكاية التي تُروى. في العملين كليهما هيمنت السردية التي أصبحت «قضية» تمّ طرحها بشكل صارخ ومثير وصادم أيضاً، لتحاكي تماماً السينما التجارية المخلوطة بالبهارات الهندية الحارة والمشوقة، والتي، بالمناسبة، يُطلق عليها أيضاً أفلام «الماسالا».
الرواية على بساطتها وأسلوبها الإنشائي وخلوّها من المعايير المهنية للرواية، جاءت مثيرة، لأنها صيغت ضمن خلطة هندية بامتياز تجمع بين الفقر والاستغلال والقهر والعبودية والضعف، مع ثيمات روحية لامست القصة فأوقدت فيها معاني وجدانية، أسهمت الموسيقى والغناء في صناعة توليفة ساحرة وشعبية... وهو بالضبط ما تفعله أفلام «الماسالا»!
السعوديون الذين صدمهم الفيلم كانوا على حقّ. ومن حقهم أن يروا أن زمنهم تجاوز هذا الفيلم بمراحل، فضلاً عن أولئك الذين جادلوا بأن وجود شخصٍ سيئ لا يعني مجتمعاً سيئاً، وأن الغالبية العظمى من الناس في هذه البلاد ينبذون الظلم ويميلون نحو الرحمة والعطف والإحسان.
لكن ليست هنا القضية... القضية أن الفيلم أظهر أن الأمة الأكبر على وجه الكوكب التي تجاورنا لا تعرفنا، أظهر أن هناك فجوة ثقافية بيننا وبين الأمة الهندية التي يعيش أكثر من 4 ملايين من أبنائها في بلادنا ومثل هذا العدد في دول الخليج من حولنا، يمثلون أكبر تجمع هندي خارج القارة، يمثلون نحو نصف عدد المغتربين الهنود في العالم الذين يقدّر عددهم ب18 مليون نسمة. الرواية والفيلم معاً يبالغان في وصف «العربي» بصفات لا تدلُّ على المعرفة، بل تبدو كأنها كُتبت في الظلام. بكثير من التهويل يتمّ نحت شخصية العربي بسكين في حجر لتبدو راسخة على مدى السردية، فهي: متوحشة، فظة، عبثية، وسخة، لا تستحمّ ولا تتنظف، أعينهم كعيون السمك الميت...! ولا يجد الكاتب حرجاً في أن يصوّر ما يسميه العربي، والمقصود السعودي، وهو ينهال على العامل المسكين وهو في باحة السجن وعلى مرأى الحراس حيث «اندفع إليه كنمرٍ جائع، وأمطره بوابل من الضربات، متسلحاً بكلٍّ من يده وحزامه وعقاله»، «ص 28». وكيف فاته أن «الحزام والعقال» لا يجتمعان في جزيرة العرب؟!
لكن، بدل إلقاء اللوم على الفيلم وعلى الممثلين، دعونا نجتهد قليلاً في تعريف أنفسنا للشعوب من حولنا، ونعرّف أنفسنا للجاليات التي تعيش بيننا وتشاركنا العمل والتنمية والمصير. خصوصاً أن شعوب ساحل الخليج متشربون بالثقافة الهندية، ووجودها بارز في عاداتهم وتقاليدهم وطعامهم وتراثهم الشعبي، وكانت خطوط التجارة مزدهرة بين هذه البلدان والهند قديماً وحديثاً، وثمة سمات روحية واجتماعية مشتركة بين الجانبين... وأمام حالة إخفاق، هناك آلاف الحالات والتجارب الناجحة، وأكثر ما يميّز الجاليات الآسيوية أنها تختلط تماماً بالنسيج الاجتماعي المحلي، وثمة ثقة متبادلة بين الطرفين.
أمام هذا الفيلم الهندي، وأمام الحاجة إلى التواصل، نستذكر السينمائي والمخرج المسرحي الهندي «السعودي الأصل»، إبراهيم حمد علي القاضي، الذي وُلد قبل نحو قرن من الزمان في مدينة «بونا» عام 1925، وعمل مبكراً على تأسيس الفنون في الهند، وأصبح رائد الإنتاج المسرحي وعملاق الأدب الهندي، وألَّف وأخرج أكثر من 50 مسرحية، وأسَّس منظمات تُعنى بالفنون وتنمية المواهب، وأشرك كبار الممثلين الهنود في مسرحياته، وبعضهم بدأ مسيرته معه عبر مسرحه، ويُعد المؤسس الحقيقي للمسرح الهندي بشكله الأكاديمي الراقي المتطور. وفي المحصلة، فقد ترك أكبر الأثر في تأسيس أهم حركة مسرحية عرفتها الهند، وتتلمذ بعض أهم روّاد «بوليوود» على يديه حين دراستهم في مدرسة «الدراما الوطنية» التي أسَّسها وأدارها لخمسة عشر عاماً. وقد كان للقاضي الفضل الأكبر في إحداث نقلة تاريخية في التراث الفني للهند، تأتّى ذلك من مزيج الثقافات التي اطَّلع عليها ودرسها وقطف أينع ثمارها عائداً بها إلى الهند، كالإنجليزية واليونانية.
يمكن للعمل الأدبي والفني أن يبني جسراً للتواصل بين الثقافات، وأن يوقظ الشعور بالإنسان وبكرامته، ويمكنه أن يثير العصبيات البغيضة، المهم هي كيفية الاستجابة.