آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:18 م

أبو عبدالمعطي التركي: غواص في بحر التراث ألقى مراسيه ورحل «1-3»

عبد العظيم شلي

في صباح الخميس، 1446/2/25، بلغني خبر حزين عبر الواتساب. رسالة تحمل صورة شخصية غير ملونة - أسود وأبيض - مكتوب عليها: «خادم الإمام الحسين ، الحاج أبو عبدالمعطي، إلى رحمة الله».

تسمرت في مكاني مذهولًا بجلباب الصمت، واضعًا يدي على جبهتي، معاتبًا نفسي عتابا شديدا. أخذت شهيقًا لكتمة ألمت بصدري، وزفرت الآهات تلو الآهات، ورحت أدعك فروة رأسي بأسى وحرقة على أيام تصرمت ولم أستثمرها بالشكل الأنسب للإبحار في ذاكرة مليئة بما لذ وطاب من تاريخ البلد وماضيه السحيق. بعد برهة، استعذت بالله، مترحمًا على روح هذا المؤمن، سمح الطلعة، وقور الملامح.

عن أي ملامح أتأملها لتبيان صورة إنسان حريف في الكلم واليد والصوت والحُسن؟ حاذق في تفاصيل الأشياء، مستذكرًا حتى النسمات العابرة، وملمًا بحرائق سموم «القيظ» وأيام الطلل والعوز وتموجات اللازورد. عن أي رحيل أتعقبه بعد فوات الأوان؟ نعي أم مرثية لأنين الروح، بتوق بين الوفاض والفيض، بين التأرجح وملامة النفس الأمارة بالتسويف. أي حديث بعد الرحيل عن رجل من نسل طينة الأولين، المثقل بموروثات البحر وما خلفه الزبد على ظهور المتعبين؟

تخبرنا ”النهمة“ وجرّ ”الخطفة“ وأنين الصواري عن طفل أخذه والده للبحر ليُعوّده على خشونة الحياة منذ وقت مبكر. فهو «التباب» على متن سفينة والده، ثم السابح في وجه الموج، والمغامر في ظلمات الهيرات، القابض على المحار، المفتش عن الدانات، والمشارك في إضرام النار لشد الطيران وقرع الطبول، الفرح مع «النواخذة والمجدمية ورجال البحر» رقصًا على أنغام «الهول واليامال» لملاقاة الأهل والخلان وقت «الگفال» و«الردات».

أسدل شراع المحامل منذ 75 عامًا، وبريد الشوق في عينيه لم يخبُ حتى آخر لحظة من عمره. رحل عنا حامل تراث الأولين والمشارك فيه وصانعه. رحل رجل ذو ذاكرة حية ترسم لك في بضعة عبارات مشاهد شظف العيش وحياة السعد وأيام الضنك وسنين العوز. رحل رجل عارف بمسالك البحر وتقاليده، رجل يحمل بين جوانحه مسرات وأوجاع الآباء والأجداد والأمهات والجدات.

رحل رجل معروف على نطاق جزيرة تاروت بكنية أبو عبدالمعطي التركي، اسم شائع شعبيًا عند مختلف طبقات المجتمع. ربما لا يعرف الكثيرون اسمه، فهو الحاج عبدالله بن تركي بن حسين التركي. ما أن تسمع باسمه إلا ويتناهى لك صورته المتفائلة بالحياة لرجل قصير القامة، عالي المكانة، رفيع الهمة. يحدثك حديثًا وجدانيًا عن ما لذ وطاب من حياة الأمس بكل عذاباتها وعنفوانها، ويأخذك إن أردت كشفًا للأسرار عن عبثية الدنيا ونزوات الشيطان، عبر تلاوته لبعض «الزهيريات» التي تصف تقلبات الأنفس. وإن استفسرت عن مقصد الأبيات أكثر، يتبسم لك بمحبة بالغة قائلًا: * «خليها على الله» *. أحيانًا تستخلص من لفتاته وشوارد الكلم أن ما خفي أعظم، لكن المثل العربي يقطع عليك المسافة بعدم الاقتراب عن ذاك الطيش وتلك الشقاوة: «رب كلمة قالت لصاحبها دعني». عبثًا يتراقص الفضول استدراجًا، لكن حكمة رجل خبر الحياة يعرف قيمة الحديث الموزون، يختصر عليك الموقف ويقف عند حدود الكلام المباح، فيجيبك تألقًا بزهيرية أخرى، كما الحكمة البالغة، بينما أصابع يديه تعبث بمسباحه، ليفصل لك الحكايات المتاحة والمقرؤة على تعابير وجهه.

من أي صفحة نفتحها لكتاب متنوع اسمه أبو عبدالمعطي التركي لنستقرئ سيرة رجل نذر عمره للعمل والفن والنياحة على آل الرسول، ناثرًا السوالف المعلومة والمجهولة، مبينًا صورًا غائبة وأخرى مستترة في غياهب السنين.

لن يكون الحديث تفصيليًا متسلسلًا، سوف يكون مثل هيجان الموج وتقلبات الريح من حال إلى حال. الحاج عبدالله التركي عاصر زمن الغوص في أوجه وانحساره، منذ أن كان صبيًا مرافقًا لوالده، حيث تمتع بنفس طويل تحت الماء. بحدسه وبفطنته، انتشل ذات مرة الشاب حبيب القمارة، وهو غواص كبير، لكنه علق في أعماق البحر بعد أن طالت مدة خروجه. نزل إليه تحت الماء، فأمسكه من تحت إبطه الأيمن، وأبو عبدالامير حسن عوجان من الأيسر. كلما رفعوه ذراعًا أخذهم للأسفل باعًا. تبعهم نزولًا للإنقاذ رجلان آخران هما محمد علي اليوسف وعباس بن حبيب. عبر سواعد الأبطال، رفعوه سريعًا إلى سطح السفينة، ثم ربطوا أرجله في «الفرمل» ورأسه للأسفل. تدفق الماء من جوفه نزولًا مثل ميزاب المطر، تدفق يشبه فوهة عين التوازي «خرررر» من كثرة المياه التي امتلأ بها جسمه. أنزلوه، لا حركة فيه ولا نفس. قلبوه ذات اليمين وذات الشمال، قالوا: خلاص، الرجل مات. لحفوه بالخيّاش، وعملوا له دواء شعبيًا: ليمون عماني مع ملح في مِلة - إناء - وسخنوه على النار قليلًا، ثم رفعوا رقبته وغروه به. ولم يستجب، فتحوا فاه وصبوه صبًا في فمه. دار في بطنه مثل دواء سحري، فأخرج ما تبقى داخل مصرانه من ماء أخضر. بعد لحظات، عادت أنفاسه للحياة، بسمات وضحكات، مكثرين الشكر لله والصلوات. موقف أربك البحارة، وبعد لحظات التف على محملهم «جرجور كبير» - سمكة قرش مخيفة - عند «خور العظمة»، والعيون ترصد بينما الغواصة توقفوا عن العمل. تحركوا قليلًا، ولحق بهم، وكأنه يتوعدهم. الأغرب وسط هذه المخاوف وحالات الترقب، عاد الشاب حبيب للغوص ثانية، لكن بعد أن نبذ النوخذة تركي هذه المغاصة التي اعتبرها مشؤومة، قائلًا: * «مغاصة ما تنبغى» *. ارتحل عنها بمعية رجاله، وحطت سفينتهم عند مغاصة أخرى تدعى «اليدر»، وحالهم يقول: * «مكرهاً أخاك لا بطل».

ثمة معلومة يدركها من خبر البحر حسب كلام أبو عبدالمعطي: ”الهير كلما انهبش، سنة الجاية يزيد محاره، واللي ماينهبش يظل كأنه ميت.“ قصده ضرورة قطف المحار حتى لا يشيخ ويعطب، تمامًا مثل زرع اليابسة، كلما تجدد قطفه تكاثر إنتاجه. فالمحار ينبت من حشائش قاع البحر بقدر ما تقتلع دون الجذور، فسوف يعطيك في الموسم القادم محارًا أكثر.

إن روح عبدالله التركي وثّابة، وهو لم يزل في ريعان الصبا، فقد تنافس ذات مرة مع رجل داهية يدعى عبدالوهاب الصيرفي في سباحة سريعة من قلب حمام باشا المسقوف، مارًا بطول حمام تاروت المفتوح إلى حدود بساتين الدشة دون رفع الرأس. كسب التحدي فأصبح سباحًا ماهرًا في المائين الحلو والمالح، والأخير هو الأصعب والأخطر. هانت الصعاب في عينيه ولم يبالِ، وبرهن للبحارة على ظهر ثلاث سفن يملكها والده، الذي يعد واحدًا من أشهر نواخذة الغوص في جزيرة تاروت، وكل سفينة يملكها تحمل اسمًا:

1- **محمل الحفيز: **

- أبو دگل واحد «خشبة طويلة صلبة تشد في وسط السفينة ويمد عليها الشراع».

- الحفيز أكبر المحامل عند ابن تركي، والمجدمي جاسم العرادي رئيس البحارة، وهو مساعد النوخذة المسؤول عن حفظ وصيانة السفينة وتزويدها بالمواد التموينية من أكل وشرب ومعدات ولوازم.

2- **محمل السعودة: **

- أبو دگل واحد، وهو أصغر من الحفيز.

- المجدمي عليه البحار حسن عباس أبو محمد التركي.

3- **محمل شريدة: **

- أبو دگلين، والنوخذة تركي نفسه صاحب المحامل، والمجدمي حبيب عليوات.

4- **محمل لواح: **

- خاص بصيد الأسماك أوقات الشتاء.

هذه أربع سفن ملك للنوخذة الحاج تركي بن حسين التركي.

ومن على سطح ”محمل شريدة“، الذي ضم على متنه 32 بحارًا، من ضمنهم الكواي، وحسن عوجان، وعباس الحبيب، وعباس بن سالم، وسلمان وعبدالله جليح، وغيرهم، تعلم الصبي عبدالله التركي حراك ومهارة الكبار، وجاب معهم عباب البحر برفقة والده مع كل موسم غوص منذ أن كان طفلًا ابن عشر سنوات إلى أن بلغ الثامنة عشرة. وفي حدود 1946-1947، وقت انكسار الغوص، خرج من البحر، وحسب كلامه: ”گفل الغوص والكل شال منامه وراح للكبني“، أي العمل في أرامكو. ترك الشاب أهوال البحر وراءه والتحق بالشركة في أواخر الأربعينات، في قسم تحميل المراكب للزيت الخام. غادر أعماق البحر وهيراته، التي كانت تحت أنظار والده بتشنيف سمعه بطرب النهام وعذوبة الألحان، إلى بحر رأس تنورة تحت أوامر العيون الزرقاء والخضراء، وضجيج أبواق السفن الضخمة وسط رطانة لغة جديدة، ومسافرًا على متن ”التكات“ إلى بنادر دول أخرى مثل العشار في البصرة وعبادان في إيران إلى سترة في البحرين وصولًا إلى كراتشي في باكستان وبومباي في الهند.

كانت محطات متنقلة من أجل صيانة سفن أرامكو في ”الحوض الجاف“. رحلات مستمرة على مدى أربعين عامًا، اكتسب خلالها تقنية مهنية وإتقان لغة بني العم سام. لكن إرث الغوص بقي يسري في عروقه كمجرى الدم. وأي حنين يخلب حواسه، الذي تفتقت مداركه في خضم عوالمه، يستهويه الحديث بشكل مضاعف عن كل ما مر به وما خبره وما عرف وشاهد وسمع عن أفانين البحر.

إذا فتحت له سيرة زمن الغوص، يسرد لك المطولات ويدخلك في تخوم الحكايات لدرجة أن السامع يتيه في لجج ذكرياته، خصوصًا غير الملم بالمصطلحات البحرية. أبو عبدالمعطي لديه تصور كامل عن شجون وفنون الغوص، كأنك تقرأ كتابًا مفصلًا عبر لسانه الطلق المستدرك لكل صغيرة وكبيرة وكل شاردة وواردة. يفصل السفينة تفصيلًا بكل قطعها الثابتة والمتحركة، البالغة عددها 270 اسمًا، مشيرًا لكل قطعة فيها والغرض من وجودها، موضحًا حراك البحارة على متنها، ومعددًا أسماء النواخذة والمجدمية، وأسماء أنواع السفن الخشبية التي تجوب البحر: «البوم، السمبوك، الجالبوت، الدنگية، الهوري، الشوعي، البلم، الكتر، المشحوف»، وأماكن اصطفاف سفن الغوص على طول سيف السنابس. ومن كثرتها تحتك الواحدة بالأخرى، حيث لا توجد فواصل بينها، وحسب وصف أبو عبدالمعطي: ”يگحص التيس من محمل لمحمل“، دلالة على شدة التجاور.

ويذكر أكبر ”بوم“ في الجزيرة يملكه الحاج علي بن سلمان الضامن، تدعى ”أم الحمد“ «بضم الحاء». ويشرح تقاليد إنزال السفن على سطح البحر وهي ملقاة على تلال ”الرفيعة“، والأخرى بالقرب من الساحل، وذلك بعد إخضاعها للصيانة أي ”الگلافة“. ويعدد أسماء أمهر ”الگلاليف“ وصغار وكبار ”الطواشين“، وأشهر الغواصين الذين جابوا البحر دون خوف أو وجل.

يمشي بك على الماء باتجاهات متعددة من طلوع الفجر للمغيب، راسمًا جغرافية البحر ومخاطره، ويتحدث عن عدد الهيرات بأسمائها وأبعادها وأشهر المغاصات، ويحدد أماكنها مرتبة من سواحل جزيرة تاروت شمالًا وجنوبًا وشرقًا. ويحدثك عن سفينة ”الراوية“ التي تحدق عبر رجالاتها لأي سفينة ترفع الراية الحمراء على ”الدگل“، فتهب لنجدتها وعلى متنها ”الفنطاس“، وهو حوض لادخار الماء لتزودهم بما يحتاجون من شرب وأكل أو مساعدة في إصلاح أي عطب في الألواح.

ويسرد تراتبية رجال السفينة ودرجاتهم في أعراف البحر، وعن شح الأكل إلا من تمر وماء فقط كوجبة رئيسية وحيدة وقت العشاء، ثم النوم كالخشب المسندة. ويوغل في رصد ما دار على ظهر المحامل من حراك ديناميكي وخطفات الشراع. ولا ينسى ذكر أعماق المغاصات: عشرة باع أو إحدى عشرة باعًا، وأعمقها وأخطرها ذات 20 باعًا. ويعلمك كيفية قياسها، معددًا أسماء أشهر النهامة على سطح السفينة وأعذبهم صوتًا. ويقول: فلان صوته أحسن، وهذا أجود.

مع أبو عبدالمعطي تتناثر صور الذاكرة عبر سردياته الموغلة في القدم والمتشابكة زمانًا ومكانًا. ويشير إلى رجل يخرج من تاروت على ظهر حمار ويجوب قرى القطيف ليعلمهم باقتراب موسم الغوص، مناديًا في الدروب بحثًا عمن يريد بقوله: ”من يبغى العمل يتزهب، الموعد باچر عند لرفيعة.“ يأتيه الشبان على أتم الاستعداد، وآخرون سبق لهم العمل، من ضمنهم صالح المگير من القديح، وحسين آل سعيد أبو صالح من العوامية، المغامر في البحر والرجل الشجاع في البر، الذي يسبق الخيل من سرعته طارد ”الدگاگة“ وهزمهم بنفسه. سواعد شبان يجتازون ”المگطع“ عصرًا ويبيتون ليلًا على متن المحامل الراسيات على سيف الرفيعة. ينهض الجمع منذ تباشير الفجر، صلاة وأدعية وسواعد متأهبة، لقد حان وقت ”البريخة“، أي السحب الجماعي للسفن. بحارة موزعين في كلا الجهتين، وفي كل جهة يقف نهام ليشدوا بالزهيريات، يجاوبه صاحيه في الجهة الأخرى، نهمات لرفع معنويات البحارة وشد من عزمهم حتى ترتمي جميع السفن في حضن الماء. وعلى ظهر كل سفينة ينشد النهام أجمل الألحان البحرية.

أجمل الأصوات اختارها بعناية النوخذة تركي بن حسين التركي، مثل النهام حبيب عليوات صاحب الصوت العذب، الذي يقلده حاليًا شخص من البحرين، محمد العبدالله، وينافسه حبيب عبدالله الماجد، عم أبو يوسف الماجد، الذي شبه صوته بصوت حضيري أبو عزيز من قوة شجنه. فقد سمعه ذات مرة بحارة من الكويت، فسادهم الصمت لجمال صوته وتمنوا أن يكون عندهم.

وآخرين مثل عبدالله المهر، نهام كبير، وأبناء الصايغ: عيسى وحجي علي، وجاسم الضامن أبو أحمد، وإبراهيم الأبيض. الأخير سقط ذات مرة من فوق نخلة ولم يكن يلوى على شيء. حمله الرجال ووضعوه في جوف حمام تاروت، وعلى عتباته أتى المراخون و”گرطعوا ظهره”، أي دلكوه. ثم قام أحدهم برفعه ظهرًا لظهر، وفي عصرة خاطفة سمعوا إيقاع سلسلة فقرات ظهره. في الحال صح وكأنه لم يتعرض لأي أذى.

كل هؤلاء النهامين أنشدوا على ثلاثة محامل عند تركي بن حسين التركي. هذا النوخذة الكريم والسخي، وقت“العباط”- أي عطلة قصيرة عن العمل بعد مغيب أسبوعين أو عشرين يومًا في عرض البحر - كانوا يأتون على متن“الجوالبيت”شوقًا للزوجات. وحسب قول الحاج عيسى المبشر:“نسوان ما يتبطحن عنا!”كانت هناك لذة من الطعام بعد صلاة المغرب في بيت النوخذة أشبه بوليمة فاخرة. يتسامرون ساعة ثم يذهبون إلى بيوتهم خفافًا لمعانقة الزوجات.

بعد انقضاء ثلاث ليالٍ، كانوا يعودون إلى البحر بعد أن استراحوا، وجددوا لياقتهم، واطمأنوا على أحوال أسرهم. تتجدد معاركهم البحرية «روحة وردة» مرة ثانية وثامنة طوال موسم الغوص.












* الصور البحرية القديمة مأخوذة من كتاب «البحرين حضارة وتاريخ»