آخر تحديث: 25 / 10 / 2024م - 1:07 ص

أبي المتألق

ليلى الزاهر *

في عالم الترْبية العميق نرمي بأدقّ النظريات القديمة التي تعلّمناها ونستبدلها بنظريات حديثة تتلاءم مع أمزجة النشء الجديد بمكوناته المتجددة استنادًا

لقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:

”لا تربوا أبناءكم كما رباكم آباؤكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم“

يقول أحد الأولاد:

أبي دائما متألق، تهربُ الأفكار البالية من تحت قدميه، يقلّدنا في كلّ شيء، فيشتري له ملابسَ تشبه ملابسَنا، يلعب معنا، يسابقنا في الجري، وهو معنا في كلّ خطوة من خطوات الطريق، غير أنّه لايأكل من طعامنا، فله طعامه الخاص لكنه - بشكل ذكي - يُزيّن طبق سلطته واللحم المشوي - الذي يشويه بمهارة فائقة - ليُغرينا بأكله فأصبحتُ أستمتع بطعم غذاء أبي، حتى بتُّ أشعر بالسعادة عندما أشاركه وجبته الصّحيّة وابتعدتُ شيئا فشيئا عن تناول الوجبات السريعة.

في كلمات والدي قوة الحزم ولكنّه رحيم بنا، يُلبي والدي جميع متطلباتنا دون أنْ يتلكّأ وكأنّه يتمطّى البرق غير أنّه يُجدْول أكثرها أهمية فيدهشني بعطائه المذهل، ويفاجئني بجلب أشياء أنا في أمسّ الحاجة إليها.

عاد والدي شابا وسيما عندما ارتدى بنطالا من الجينز الغامق وفوقه قميص زاهٍ بألوانه الشبابيّة عندما رافقني أنا وأخي إلى حفلة عشاء، كنتُ فخورًا برفقته فهو يتحدّث بثقة وينزل بمستوى ثقافته لمستوى فكري وفكر أصحابي، فكان يخوض في أحاديث أذهلتنا جميعًا.

بالأمس كنتُ أُبصر الأشياء بحدود لاتتعدّي بصري أما اليوم أبصر أمورًا دقيقة تعدّت مجال بصري، تعلمتُ ذلك من والدي لأنّه كان يجزم أنّ الإنسان يمتلك عينين فكريتين يبصر بهما فكره ولولا العيون الفكريّة لما أبصرنا المسافات البعيدة التي يعجز البصر العادي عن رؤيتها لذلك كان إصلاح التّفكير أولويّة كبرى في تربيّة النشء.

فكيف لنا أن نربي الأمل في النفوس لنراه يكبر يومًا بعد يوم؟

كيف لنا أن نبصر أيام الرخاء بعد أعوام طويلة دون أن نمشي في أرجاء الألم والتّعب هذا اليوم؟

كنتُ أمشي يوما ما وصوت والدي يسبقني وصداه يتردد في أجوائي: لاتلتفت للخلف، امضِ قدما للأمام، كانت أفكاره تلازمني وقلمه الفاخر بيدي، وهكذا تبقى الأشياء ويذهبون.

قال نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام:

‏ «الوالدُ أوسط أبواب الجنّة»

في حفظ الله وأمانه ياوالدي الحبيب، ذاتها النفوس الأصيلة نخسرها برحيل أصحابها أمّا الزائفة فتبقى لترهق الأرض بخطواتها وتنفث سمومها القاتلة.

لم يطلبْ والدي يوما ما ثمنا لمحبته لنا ولكنني اليوم عاجز عن تقدير ثمنٍ لعطائه المتدفق في طريق حياتنا، ربّما لانعرف قيمة الملح لتواجده في جميع المنازل ولكننا نفتقده عندما يخلو الطعام منه، وربما ترتفع قيمة الملح كثيرا عندما يخلو من الأسواق ومما لاشك فإنّ قيمة الأب تبدو باهظة جدًا عند رحيله عن هذه الدنيا.

يقول الشّاعر ابن عبد ربه:

ما ماتَ حَيٌّ لِمَيِّتٍ أَسَفاً

أَعْذَرُ مِنْ والِدٍ على وَلَدِ