آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

حكايات على رمال الجنة

زكية أحمد الناصر *

جموع مثل المطر، أعداد كالسيل الهادر، حشود من كل فج عميق، بكل لغات العالم يتحدثون، رايات وأعلام، أطفال، شباب، شيوخ، كلها متجهة نحو نبع النور.

وفي الطريق إلى هناك حكايات تكتب بمداد الذهب، الفقراء الذين أغناهم الحسين، يفترشون الأرض، ويقدمون قوت يومهم لزوار الإمام، في هذا المكان انتفضت الأرض وهبت لتحتضن العشاق، الذين أتوا ليلثموا ذرات التراب التي تروت بالدماء الطاهرة للحسين .

في مارثون المشي المقدس تستوقفك مشاهد أسطورية، كهل في الثمانين من عمره يتكئ على عصاه، ويجد السير للوصول لمعشوقه بعد أن قطع الطريق لأيام طوال، لا يشكو تعبًا، ولا حرا.

وتلك المسنة التي تستيقظ مع بروز خيوط الفجر الأولى، لتعجن الدقيق بيديها التي أرهقتها السنين، وتصنع خبزًا تقدمه ممزوجًا بكلمات الترحيب ”هلا بزوار الحسين“.

والصدمة الكبرى حين تصل لموكب خيمة عبدالله الرضيع، لتجد نفسك في ضيافة من خمسة نجوم، وملايين الوجبات المقدمة مجانًا، لمن قطعوا البر والبحر؛ ليشحنوا أرواحهم بطاقة الحياة.

كمٌّ هائل من السعادة يبديها خدّام الحسين ، وهم يبذلون كل شيء لمساعدة الزائر على إكمال المسير براحة، فهذا يقدم الطعام، وآخر يقدم عربة للأطفال، وذاك ملابس ومظلات، عدا من يدلك قدميك، ويغسل ملابسك، صور من الكرم خرجت عن السيطرة!

وفي مشهد آخر، هل لك أن تتمالك دموعك وأنت ترى صبيّا لا يملك يدين ويحمل على ظهره راية، كيف له أن يتخذ قرار المشي الطويل! لولا ثقته بأن إمامه الحنون الذي أزال ليلة العاشر حسك السعدان من الأرض خوفًا على أطفاله، سيحتضنه، والعباس قطيع الكفين سيعانقه.

”هلا بيهم... هلا بيهم“ من على بعد مسافات تطرق سمعك؛ لتشعرك أنك في محجر العين، وأيادي الملائكة تحملك، خلال مسيرك على رمال الجنة.

إنهم يرسمون لوحة الأربعين الخالدة، كامتداد لملحمة الفداء والتضحيات العظيمة التي قدمها الحسين ، باختصار؛ إنهم باقون على العهد، يجددون قيم السماء، وعطاءات أهل البيت، يلملمون قربة العباس الممزقة؛ ليشكلوا الهوية الإنسانية من جديد.

يصل الزائرون لكربلاء؛ فتتسع الأرض، كل له مكان، حتى المعاقين في قلب الحدث، وعلى تراجيديا الحزن توحدت اللغات؛ لتظهر لغة الفطرة، اللغة الرافضة للظلم والعاشقة للخير والجمال.

هذه اللحظات التي لا تشيخ أبدًا تحفر في أرواحنا معنى الوفاء لمن قدم القربان تلو القربان ليحيينا، وما لطم الصدور سوى تطهير لنفوسنا، وشعارًا للحزن النبيل الممتد على خارطة البشرية.

مشرفة تربوية بمكتب تعليم القطيف