آخر تحديث: 23 / 10 / 2024م - 6:27 م

التصديق

محمد العلي * مجلة اليمامة

التصديق هو السد غير المرئي لنمو الوعي البشري؛ فمنه ينشأ التقليد، وتستساغ الخرافة، ويستطاب الرق الطوعي، ووضع زمام الإرادة في لسان الآخر. التصديق، في المنطق الصوري، يرادف الاعتقاد، وتتوقف صحة أي اعتقاد على مطابقته للواقع، ولكنه حين يكون على خطأ، وتؤمن به الأكثرية في المجتمع، يصبح قوة مادية جامحة، ومن هنا تفتح الهاوية ذراعيها. وليس شرطا للتصديق الأعمى أن يكون المتكلم كاذبا، كلا. فقد يكون في أتم الصدق مع نفسه، ولكن قوله هو الخطأ، ولابد من تقليبه على بوتقة الجدل والمساءلة، للكشف عما يضمره.

المسألة الشائكة أن التصديق ضرورة من ضرورات السلوك في الحياة العملية والفكرية، وإلا لما استطاع الإنسان أن يتفاعل اجتماعيا تفاعلا إيجابيا مع محيطه الاجتماعي، أو يسلك على ضوء قيم محددة، ولأصبح تائها نفسيا، وبعيدا عن برد اليقين، فكيف الخروج من هذا الفخ؟ لقد أراحنا الفلاسفة القدماء جزاهم الله خيرا من عناء التفكير فقد تركوا بين أعيننا مصباحا لا ينطفئ أبدا، ذلك هو «الشك» «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر» هذه الجملة الباسقة وردت في تراثنا، ولكنها بقيت من دون ظل. وهذا هو داؤنا الثقافي المزمن، يبدأ الشوط، ولكنه يقف في منتصف الطريق، فينتهي كما بدأ. أما الجملة التي بقي ظلها ممتدا أبدا، فقد جاءتنا من ثقافة أخرى، وهي أن يبدأ الشك مسلّطا على كل محتويات ذاكرتك، قبل الالتفات إلى أقوال الآخرين.

مضى زمن وأمتنا تصدق ما يقوله الغرب عن حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وغير ذلك من المخدّرات اللغوية، وعلى الرغم مما يشاهده العالم من إبادة متعمدة للشعب الفلسطيني، لا تزال بعض الأمم تنثر على سمعه قصائد المديح، إيمانا بصدق ما يقوله من أكاذيب. ومضى زمن لم تبق صفة منحطة إلا ألصقها بالاتحاد السوفيتي في حينه في حين أنه كان نصيرا للشعوب الضعيفة. ولا زلت أنا وجيلي نذكر ذلك الشيخ الفطحل الذي سجد لله شكرا لأن السلاح الإمريكي «المؤمن» هزم السلاح السوفيتي «الملحد» وكأن الفيلسوف ماركس كان في كل طائرة وصاحبه إنجلز كان في كل دبابة، وكانا معا، يرشان الأفكار بدلا من الرصاص في حرب «67» ولا زالت أمتنا المجيدة حتى الآن تصدق ما يفتريه هذا الغرب.

كاتب وأديب