وداعًا أستاذ محمود عليوات
ندرك بأن الموت حق، بل حقيقة لا لبس فيها منذ فجر الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل سائر إلى حتفه، وما نحن في هذه الدنيا إلا مجرد عابري سبيل سواء طال بنا العمر أم قصر.
خلال أعمارنا المعدودة، نكابد رحيل الأعزاء واحدًا تلو الآخر، فيغمرنا الحزن على فراقهم برغم إيماننا الشديد بحتمية الفناء، تلك حقيقة مُرة ستعصف بنا يومًا وسيبكي علينا الباكون كما بكينا على الذين سبقونا.
بين دموع جفت ودموع رطبة، يوجعنا رحيل الأحبة، بغيابهم تسوّد الدنيا في أعيننا وتضيق، فالموت يتوعدنا كلما أخذ حبيبًا، نخاتله لبعض الوقت فنخلد هنيهات لعلنا ننسى المصاب، لكن هيهات، يأتينا خلسة ليفجعنا برحيل آخر لعزيز، حبيب، قريب، جار، صديق، صاحب، زميل، رفيق.
فتصيبنا أوجاع الفقد في مقتل وكأننا نحن الراحلون، خصوصًا لمن تركوا فينا أثرًا، وتشاركنا معهم تطلعات الحياة وتقاسمنا معهم الملح والزاد، نجزع، نخاف، ننتحب، نرتعش، نعيش فوضى الحواس، وأي عذاب نتلضاه تحت وطأة سياط الغياب حين يفارقنا عزيز كان بالأمس معنا وفي نفس الوقت قريب من القلب، نحس بالوحشة والرعشة وكأن جزءًا من حياتنا رحل معه، يسربلنا الحزن وتنكتم الأنفاس، وكأن أيامنا حزن موال لا ينتهي.
هكذا فقدنا العزيز الأستاذ محمود حسن عليوات على حين غرة، عابرًا على السرير الأبيض لبضعة أيام، حيث كان الأمل والدعاء يرسمان لنا بروقًا للشفاء وتجاوزًا للشدة، ظنناك يا محمود صبيحة يوم الثلاثاء الماضي غارقًا في نومتك الاعتيادية وإذا بك أغمضت العيون بنومة أبدية، هل استعجلت الرحيل وتركتنا حيارى نلوذ بالبكاء والذهول، رحلت عنا من غير ميعاد.
ماذا نقول عنك أيها النقي، الوفي، الشهم، ملبي الحاجات، كريم الخلق، حسن الطباع، أي حديث نسرده عنك وماذا نقول في سيرتك الوضاءة بكل معاني الخير والألفة، يا جميل النفس يا طيب القلب، يا ذا الروح الحانية.
نعم لا يختلف اثنان على طيبة محمود لكل من عاشره أو خالطه أو اقترب منه، طيبة عفوية لا تصنّع فيها ولا تكلّف، طيبة طبيعية، هي سجية متوارثة من والده «أبو فلاح» وعمه ناصر «أبو حسين» وأبناء عمته «عائلة العبندي» وأيضًا أبناء عمومته «عائلة العليوات»، ما أن تراه مقبلًا إلا ويغمرك بطيبته السمحة ومصافحته الدافئة، وابتسامته المشرقة، سلوك أشبه بالضياء مع الكل، الصغير والكبير مع الجار والبعيد مع الزميل والغريب، طيبة فطرية لا متناهية.
تتناثر شهادات عطرة من بعض مجايليه أثناء تنقلاته الدراسية فقد أكدوا سيرة طالب نجيب، تراه في الصف جالسًا بأدب جم، وبانتباه عال وأذن صاغية لكل مدرس، يكن لجميع معلميه كل احترام وتقدير، مما انعكس على تفوقه الدراسي.
تمر الأيام والسنين ويرتقي الشاب محمود درجات العلم متخرجًا من جامعة الملك سعود في تخصص «علم الأحياء» سنة 1418، وبعد مرور أربع سنوات يتم تعيينه في مدرسة متوسطة وثانوية الجديدة بتاريخ 1423/6/29 هجرية في بلدة «جديدة عرعر» القابعة على حدود المملكة الشمالية مع العراق، تعايش مع الغربة برفقة لفيف من المدرسين الجدد، يضمهم سكن واحد، وهنا برزت روحه العالية الظافرة بالنبل فأصبح المكافح من أجل راحتهم طوال عامين، خدوم لهم في كل شيء من تجهيز الشقة وشراء المواد الغذائية وتحضير وجبات الطعام، فقد امتاز بفنون الطبخ، وأطلق عليه «طباخ الشقة، إداري العزبة، الكل في الكل»، يؤدي كل ذلك من دون تململ ولا منة ولا تكاسل بل بفرح غامر، ولا يجبر أحدًا على تنفيذ عمل ما، ويلتمس العذر لجميع زملائه، الذي كان عددهم سبعة معلمين وبعد عام جاء إليهم اثنان فما كان من محمود إلا قبولهم والترحيب بهم برغم ضيق المكان وعنه يقول الأستاذ أمين البراك: «ماذا أقول عن هذا الرجل، سبحان الله، كان معطاء معطاء بلا حدود، يتعمد بأن لا تكون عنده حصص أخيرة لكي يخرج من المدرسة ويقطع 60 كيلو إلى المركز - عرعر - حيث نسكن، وذلك من أجل تحضير وجبة الغذاء، ما أن نصل إلا وهي جاهزة، وأيضًا ما كان يضغط على أحد في أي شيء، ولا يجبر أحدًا على شيء، ”ما تقدر ما تقدر خلاص“، الحياة عنده ماشية، يقول لك عادي عادي، الله يشهد كانت الشقة زحمة زحمة غرفتين والموجودين سبعة واحنا اثنين جايين قال المكان يتسع بأهله ولو غيره في هذا الموقف ما يرضى، بالفعل ما حب يضيع أحدًا من البلد، وأنا كنت وقتها صغيرًا توني متعين وين أنساه كيف أنسى فضله علي، رحمة الله عليه».
يقال بأن الولد سرّ أبيه، فمحمود ورث طباع أبيه، فقد جمعتني مع والده سفرة في ربوع الشام عام 1414 ونحن كنا أربعة معلمين، كاتب السطور والأستاذ عبدالله آل حسين والأستاذ جعفر المصلي ورابعنا أبو فلاح، استطلعنا الشمال السوري الخلاب مارين بالآثار والقلاع وحين حط رحلنا في اللاذقية لبضعة أيام لم يحتمل أبو فلاح رائحة البحر فأخذ يشتري السمك الطازج ويطبخ الرز ويجهز السلطات وكأننا ضيوف في الشقة أراد أن يقوم هو بكل شيء! هي الصورة ذاتها عند محمود تمامًا وتقريبًا عند جميع إخوته وعمه ناصر.
بعد مرور عامين تقريبًا على تعيين الأستاذ محمود مدرسًا في الشمال انتقل إلى متوسطة النعيرية بتاريخ 1425/7/9 هجرية، وتعرف على زملاء جدد من القطيف والأحساء وضمهم سكن واحد وخلال عام واحد ترك أثرًا محمودًا عند الجميع ومن ضمنهم ابن ديرته سعيد الجيراني وعن تلك الصحبة الجميلة يقول: «في الغربة وفي المكان البعيد الواحد يسعد بأولاد بلده، وزادت سعادتي بالتعرف على الأخ محمود عن قرب، دائمًا هو المبادر بالسلام، يجيء ويتعرف ويكسر الجو العام، عنده إيجابية وقابلية للآخرين الموجودين من حوله، ومعنا مجموعة من أهل الأحساء كلنا نجلس في مكان واحد، لكن الكل متعلق بالأستاذ محمود بشكل أكبر وتواصلهم معه لم ينقطع حتى بعد أن تفرق الجمع، يأتون إليه من الأحساء لزيارته بين حين وآخر محملين بالهدايا والأغراض، يستذكرونه سنويًا ”بنغصة رمضان“ ومن ضمنهم الأستاذ علي الشاوي، حقيقة كان أستاذ محمود محبوبًا نتيجة علاقاته المتينة والطيبة، يأخذ حصص الانتظار عنهم خصوصًا الأخيرة لتسهيل عودتهم إلى أهاليهم، ما عنده مانع أن يتأخر هو من أجل راحة زملائه، لهذا الحد الرجل متفان، كريم نفس، بشوش، ابتسامته دائمًا على وجهه، يتعامل مع الناس باريحية، ما فيه أي تكلف، إنسان بسيط في تعامله، متواضع مع الجميع، كم أحزننا رحيله، رحمه الله رحمة واسعة».
بعد انقضاء فترة النعيرية ينقل أستاذ محمود إلى متوسطة «ابن المظفر بالظهران» يوم 1426/7/16 وبعد تدريس دام سبع سنوات، نقل إلى ثانوية عنك وظل فيها عامًا كاملًا وأخيرًا استقر به المقام في مجمع مدارس الخليل بن أحمد بالربيعية قسم الثانوي بتاريخ 1432/10/7 إلى حين رحيله يوم 16/صفر/1446، وعن ذلك الرحيل المفاجئ طلبت من أخي عبد المنعم شلي المساعد الإداري في المجمع الإدلاء بشهادة حق لمعلم مميز، حيث قال:
«سيرته بين الطلبة والزملاء: كان خبر وفاته صدمة للجميع في المجمع، توفى عندنا أكثر من معلم في المجمع، لكن وفاة الأستاذ محمود لها الأثر البالغ لدى الجميع، حتى في اليوم الثاني سادت أجواء الحداد، شغل المعلمون جهاز «البروجكتور» على صوت القرآن، وترى في وجوههم آثار الحزن. كان أستاذ محمود كريم الخلق، يأنس المرء بمجالسته، ما رأيت منه أي حالة تكبر أو فخر في كلامه معنا.
من ناحية العمل، إذا أسند إليه عمل ما غير التدريس أو طُلب منه خدمة تجده يقوم بالواجب، ما رأيت منه أي تصادم مع مدير أو زميل، أتذكر طلبت منه ذات مرة خدمة فنية تتعلق بأحد البرامج وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلًا وشارف الوقت إلى الساعة 12:30 حتى أتمها على أحسن وجه دون تضايق، ولم يقل لي نؤجلها للغد. الخلاصة: يخدم غيره برحابة صدر.
بالنسبة لي وبحكم طبيعة عملي، أكون بعيدًا نسبيًا عن الجلوس الطويل في غرف المعلمين، إنما أذهب تقريبًا كل يوم لبضع دقائق، فلا أستطيع أن أعطي صورة كاملة، لكن بحكم وجودي في المجمع لمدة تسع سنين، يعتبر أستاذ محمود من ضمن أفضل مدرسي مادة علم الأحياء.
سألت ولدي علي: كيف تعامله مع الطلبة؟ فقال: «ممتاز، وفوق الممتاز، ما كان يعصب على الطلاب أبدًا».
تذكرت له ميزة، كان متفانيًا، يجهد نفسه ليس فقط للطلاب الذين يدرسهم بل يخدم الطلاب في الفصول التي لا يدرسها حيث يعمل روابط أسئلة نهاية العام لطلبة فصوله والفصول الأخرى كتلخيص ومساعدة للطلبة لفهم المادة ورفع درجاتهم، وتتسم أسئلته حسب كلام ابني علي «بالسهولة والوضوح». رحمة الله عليه لقد فقدنا معلمًا مؤثرًا بكل معنى الكلمة. إنا لله وإنا إليه راجعون».
على مدى 24 عامًا امتلك الأستاذ محمود روح التفاني والإخلاص في كل مدرسة أتى إليها، وبمحبة طاغية لزملائه وطلابه خلال تلك السنين التي قضاها في سلك التعليم معلمًا فاضلًا يشار إليه بالبنان، وخير شاهد على هذا الحب المتبادل وجمالية طيبته وحسن معاملته الرفيعة مع الكل ذلك التشييع المهيب الذي حظي به، ففي ليلة حارة شديدة الرطوبة كاتمة الأنفاس، تقاطرت الجموع من كل حدب وصوب، فالأكف تسابقت على حمل النعش وبالكاد حظي المشيعون مرة أو مرتين وتجاوز البعض ثلاثًا، حضور غفير مزدحم على طول المسافة من المغتسل لباب المقبرة، مشهد نادرًا ما تراه، تحسب التشييع لخطيب أو شيخ جليل، لكنه لمعلم أنار العقول، شيع محمود إلى مثواه الأخير وسط نحيب ينفجر من لدن شبان هم أقاربه، إخوته، نافسهم في سكب الدمع مدرارًا بنحيب يوجع القلب بعض طلابه الذين ملؤوا فضاء المقبرة، كيف لطلبة يعدونه أكبر من مجرد معلم يؤدي واجبًا وكفى، ففي دواخلهم الصادقة الشفيفة لم يفقدوا معلمًا عاديًا، بل فقدوا أبًا رحيمًا، نصوحًا، محفزًا، عطوفًا، مساعدًا للكل على السواء.
بعد أن ووري الثرى ثمة نسوة من أهله ينتحبن عند صمت القبور وصوت واحدة منهن تقول «ما تحمل فراق عمه، جاءك يا أبو حسين ولد أخوك» لقد كان في حياة عمه ناصر وقت اشتداد المرض عليه هو الأقرب إليه، يداريه، يرفعه من وإلى السرير ويأخذه للمواعيد كأنه الطبيب المداويا، ارتحل أستاذ ناصر وأتى إليه ابن الأخ أستاذ محمود بعد مرور 14 شهرًا.
هل جئت لتؤنس وحشة عمك، أم اشتقت إليه؟
شيعت يا محمود ليلًا وأسفر الصبح في مدرستك وإذا بمجمع الخليل بن أحمد بالربيعية أشبه بحزن مأتم، ضجّت الشاشات التفاعلية ببث تراتيل القرآن الكريم، والطلبة في ذهول، البعض انفجر باكيًا وكذا المدرسين، إنها دموع الحب والوفاء دموع الحسرات على فراقك، كيف لهم أن يتخيلوا عدم وجودك معهم وأنت الذي أسرت قلوبهم بإخلاصك وتفانيك وبطلتك البهية.
يا محمود رحيلك ليس سهلًا، لأن مكانتك كبيرة في نفوس كل من اقترب منك وعاشرك وخبر سيرته الظافرة النقية.
إنا لفراقك لمحزونون يا محمود ما أجملك كنت محمودًا عند الجميع، سلام على روحك المطمئنة فقد أديت الأمانة على أكمل وجه، سيفتقدك المحبون والمخلصون، والمريدون في مجلسكم العامر، سيشتاق إليك طلابك، الذين خيل إليهم بأنك لم تزل في الإجازة وستعود، سيسألون عنك بضميرهم الحي «متى تبدأ حصة الأحياء، جاء أستاذ محمود، هل بدأ الشرح»، أم انتهيت من سرد دروس الأخلاق الفاضلة؟
يا محمود سيسأل عنك مأتم عمتك أم أحمد العبندي ويقول من يعلق سواد محرم في العام القادم؟
وداعًا يا محمود يا لين العريكة، وداعًا يا حلو الطباع من مثلك لا يُنسون.