آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

حرية القفص

كمال بن علي آل محسن *

الطائر في عالمه يعشق الحرية والانطلاق في فضاءات الحياة الرحيبة، ولا تعجبه حياة الأقفاص الضيقة المحصورة في عالمنا نحن البشر؛ وذلك لإحساسه بأن قضبانها تمنعه وتقف حائلاً أمامه عن ممارسة ذلك العشق، عشق الطيران والحركة والانتقال من مكان إلى آخر ومن المكوث على الأفنان القريبة والبعيدة، هو في قفصٍ لم يختره ولم يرغب العيش فيه، يتكلم وهو في داخل ذلك المكان بلغة حروفها الألم، لغة لا يعرفها ولا يفهمها إلا أشباهه من الطيور، ولو حاول الإنسان ترجمتها مستعينًا بمن يدرك مدلولات تلك اللغة فستظهر بهذه العبارة:

القضبان التي أمامي مغروسة في قلب حريتي؛ لتمنع سعادتي، وإن حياتي في ذلك المكان هي أشبه بعملية إبادة لسروري وفرحي.

‏تشابه كبير وحجمه كحجم الفضاء بيننا نحن بني البشر في حب الحرية وبين ذلك الطائر الذي يعشق الحرية، لكن هنالك ثمة اختلاف عجيب بيننا وبينه، فالطائر عندما خسر حريته خسرها مجبرًا، أما نحن فنخسرها اختيارًا، حيث نتنازل طواعية عنها، فنفتح باب القفص بأيدينا وندخل فيه، مع إحكام إغلاقه بشدة، قفص صنعناه بمواصفات خاصة، قفص نريد أن نمارس حريتنا فيه مع أنها مسلوبة ابتداءً منه.

قفصنا لا ينتمي لعالم المحسوسات حتى نراه، بل إلى عالم المجردات، قفص سجّانه ليس كأي سجّان، ففيه القوة والجبروت والسيطرة التامة التي منحناها نحن إياه، ولا يمكننا الهروب من ذلك القفص ما دام موجودًا لحراسته.

هذا السجّان القوي وهمًا هو الهاتف النقال «الجوّال»، أليس ذلك الأمر غريبًا؟!

تمرّ أيامنا وليالينا وتنصرم ونحن نقبع في ذلك القفص جاثمين على حريتنا، حريتنا مسلوبة ونحن لا نرى ذلك وربما نرى، قيود المكان فولاذية المعنى، ووقتنا يحترق ويضيع، يوجّهنا ذلك السجّان كيف يشاء ونحن في مكاننا بلا حركة، فإلى متى ونحن في هذه الحالة من العجز التام أمامه، فلا مقاومة نحاولها ولا حتى انتقاد نصرخ به في وجهه.

لقد اخترنا حرية القفص على حساب حرية الحياة، فأصبحنا والطائر في مكان واحد مع اختلاف الرغبة، حرية القفص التي نشاهد فيها الناس وهم يمارسون حرياتهم باتساعها، نشاهدهم وهم يتنقلون من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ومن بقعة إلى بقعة في تلك الشاشة الصغيرة، نشاهد جديدهم الذي يتغير في كل ساعة، نشاهدهم عبر تلك الشاشة المظلمة الضيقة، ثم نمنع أنفسنا من ممارسة نفس الحرية.

الطائر الحر وهو في علوه ويمارس حريته ينظر إلينا بعين الاستغراب والدهشة، وهو يقول:

نحن نحارب في هذه الحياة؛ كي نعيش أحرارًا، وهؤلاء البشر الذين خلقوا أحرارًا، كيف لهم أن يؤثروا السجن في ذلك القفص على حساب حياة الحرية!

إذا عقدنا صفقة يكون فيها ثمن حريتنا جوالاً يداعب أناملنا، فعلينا أن نعلم علم اليقين بأن صفقتنا خاسرة.

يقول إيليا أبو ماضي:

وعجيبٌ أن يُخْلقَ المرءُ حرًّا

ثم يأبى لنفسهِ الحرية