يوم آخر من الرعب في غزة
نستعير عنوان هذا المقال، من تصريح لمفوض الأونروا، وصف فيه ما جرى يوم السبت الفائت الحزين، في «مدرسة التابعين» التي تؤوي لاجئين في مجزرة كبرى ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، بحق المدنيين الآمنين، وكلفت مئة شهيد، فضلاً عن الجرحى، الذين بلغت أعدادهم أكثر من ذلك بكثير.
دِينت الجريمة بشكل واسع محلياً وعربياً ودولياً، وقد وصفها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، بالمذبحة المروعة التي تسبّبت في مصرع 100 من مواطني غزة، معتبراً الجريمة حرب إبادة تستهدف التطهير العرقي، ودعا العالم لإدانتها، ونفى رواية إسرائيل بشأنها، والتي قالت بأن سلاح الجو الإسرائيلي، قصف مقراً تستخدمه حماس والجهاد للقيادة والسيطرة في المدرسة وسط مدينة غزة، وأوضح أنها مملوءة بالأكاذيب والمعلومات المزيفة. وأكد البيان أن الاحتلال استهدف في المدرسة طابقين: الأول كان يؤوي النساء، والآخر كان مصلى للنازحين. وناشد الدفاع المدني في غزة، العالم بالتدخل الفوري لوقف المجازر ضد المدنيين العزل في مراكز الإيواء. وأوضح أن الاحتلال استهدف 13 مركزاً لإيواء النازحين، منذ بداية الشهر الحالي.
وبالمثل رفضت حركات المقاومة الادعاءات الإسرائيلية، ووصفت ما جرى بأنه جريمة مروّعة وتصعيد خطِر في مسلسل الجرائم التي ترتكب في غزة، على يد من وصفتهم بالنازيين الجدد، وأنها تأكيد واضح على مُضيّ إسرائيل، في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، باستهداف المدارس والمستشفيات.
إن الإجرام الإسرائيلي في قطاع غزة، ما كان له أن يتواصل، لولا الدعم الأمريكي، ما يجعل واشنطن شريكة فيه. ودانت الرئاسة الفلسطينية الجريمة الإسرائيلية، وحمّلت الولايات المتحدة والاحتلال المسؤولية.
وعلقت مقررة الأمم المتحدة، فرانشيسكا البانزي على الجريمة قائلة، إن إسرائيل ترتكب مجازر جماعية بحق الفلسطينيين في مدرسة تلو أخرى.
لقد دانت معظم الدول العربية هذه المجزرة، واستنكرت تقاعس المجتمع الدولي، تجاه محاسبة إسرائيل جراء هذه الانتهاكات. وأكدت على وجوب وقف المجازر الجماعية بالقطاع، الذي يعيش كارثة إنسانية غير مسبوقة بسبب انتهاكات الاحتلال، واعتبرته خرقاً فاضحاً لقواعد القانون الدولي، واستهدافاً ممنهجاً للمدنيين، ومحاولة لنسف المفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ودعت لوقف الاعتداءات، ومحاسبة الاحتلال، وفرض عقوبات دولية على إسرائيل.
ما أشرنا له غيضٌ من فيضٍ واسع من التصريحات والإدانات، التي صدرت بحق الجريمة الإسرائيلية، التي لم تكن سوى واحدة، في مسلسل كبير من الجرائم، استمر منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، حتى يومنا هذا، وتسبّب في مصرع، قرابة أربعين ألفاً من الفلسطينيين، وجرح ما يربو على التسعين ألفاً، وما زال مسلسل القتل مستمراً، من غير رادع أخلاقي أو إنساني أو قانوني.
وستواصل حكومة نتنياهو المتطرفة، ما وصفناه في حديث سابق بالهروب إلى الأمام، هذه السياسة داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها. ففي صيدا، جنوب لبنان، قتلت مسيّرة إسرائيلية سمير الحاج، القيادي في حركة حماس. وكانت قضية الاغتيالات، موضوعاً لحديثنا السابق، الذي حمل عنوان «حافة الهاوية».
إن الحكومة الإسرائيلية، بسلوكها الراهن، تستدعي حرباً إقليمية واسعة، مراهنة في ذلك، على مساندة أمريكية. والهدف هو إطالة مدة الحرب التي مضى عليها أكثر من عشرة شهور، وتوسيع مدياتها الإقليمية واللوجستية. وهي في سلوكها هذا، تعرّض حياة الأسرى والمختطفين للخطر، وتعطّل التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، بين حركة حماس وجيش الاحتلال. إن ذلك يقف بالضد تماماً لرغبات العوائل الإسرائيلية، التي تتطلع إلى عودة أسراها لها. كما أنه يؤكد إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب، باعتبار ذلك الوسيلة المتاحة أمامه، للاستمرار في السلطة، وتحقيق هدفه الرئيسي في التهجير القسري لأهل غزة، وإجبارهم على الرحيل.
لا يمكن لنتنياهو الادعاء بالحرص، على التوصل إلى صفقة مع قيادة حماس، وفي نفس الوقت الإمعان في اغتيال قادتها، وزجّ أطراف جديدة، كإيران والحوثيين في الصراع المباشر. إن الاحتمال الأكبر هو أن تتجه المنطقة بأسرها إلى فوضى لا يمكن تصورها.
يراهن نتنياهو، على انشغال الإدارة الأمريكية بحملة الانتخابات، التي باتت شبه محسومة بين كامالا هاريس، عن الحزب الديمقراطي، ودونالد ترامب عن الحزب الجمهوري. وهو وضع في صالحه، فالطرفان يعملان على كسب رضاه، باعتبار ذلك ضماناً لهما، لكسب تأييد اللوبي الصهيوني داخل أمريكا، مع فارق واحد هو تأكيد كامالا على حماية المدنيين الفلسطينيين، وتأمين حق العيش لهم.
ويراهن نتنياهو أيضاً، على وصول ترامب، للحكم وتمكينه من مواصلة حرب الإبادة وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، ليس في قطاع غزة وحده، بل والضفة الغربية أيضاً. إن ذلك يفرض على العرب جميعاً، شعوباً وقيادات، التصدي بقوة لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية، التي لم تعدْ تحاك في الظلام، وتلك مهمة إنسانية وأخلاقية وقومية، لا مناص منها.