يبدو أنّ نَهارِي كان مُخْتَلِفًا
الأم قويّة، مليونيرة تدّخر مابوسعها من المال فلايطلب صغارها المال إلّا ولبّت طلباتهم، لها قدرة على تمرير الأيام الصعبة، تجد حلّا لكلّ مشكلة، في يديها قلمٌ، وعلى كتفيها ملاعق المائدةِ، وعلى طرف لسانِها كلّ كلماتِ الحبّ والتّشجيع، تحيتُها ابتسامة صادقة، وفي حدقتيها النّور الكافي حتى يرى أبناؤها النّور وسطَ العتمة، يغفو أطفالها وهم يسمعون صوتَها الحاني يُتمتم بهدوء:
نمْ، فأنتَ بعين الله، تشملك رعايته.
هذا اليوم ليس عيدًا للأم وليس موقوفًا على التّعبير عن مشاعرنا تجاه أمهاتنا، إنما يصحّ للأم ما لا يصحُّ لغيْرِها في كلّ زمان وفي كل مكان، بوجود مناسبة أو عدمها.
فكلّ يومٍ نستطيعُ أن نُشيدَ فيه بأمهاتنا، ونُنْشد أجملَ القصائدِ في محراب طاعتهن.
ولكن هل جميع الأمهات خُلقْن وهن يحملن نفس الرسالة السّامية في التّربية والتّعليم وتحمّل المسؤولية؟
ذلك أمرٌ يصعبُ الخوضَ فيه، بل نلاحظ حرمتُه الشخصيّة عند بعض الكتّاب وإن تمّ تناوله بشكل قليل خشيةَ خوف التّعرض لحرمِ الأمِ وقدسيّتها.
إلّا أن الإسلام لعن الأم والأب عندما يكون لهما يدا في عقوق ابنيهما لهما.
قال ﷺ في موضع حقوق الأبناء:
”لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما، ورحم الله والدين حملا ولدهما على برهما“
فبعض الآباء يسوسون الأمورَ بغير عقل؛ فيطلبون تنفيذ أمرُهُم عنوة دون اقتناع من الأبناء؛ يفتقدون بذلك إلى لطف المداراة، فيقع أبناؤهم بالعقوق والعصيان.
عن الإمام الصادق عن آبائه قال: قال رسول الله ﷺ: ”يلزم الوالدين من العقوق لولدهما إذا كان الولد صالحا ما يلزم الولد لهما“
وبإضاءة بارعة سطّر أحدهم عبارة غريبة عندما وصف حاجته لأمه المُقعدة على فراشها وغاب وعيها فلا تشعر بوجوده مطلقا:
أستطيع القول أنّ حاجتنا للأم مثل حاجة الظامئين للماء الزُّلال لاطعم له ولامذاق بل الحاجة له حاجتنا للحياة برمّتها.
مما جعله يتلقّى نقدًا لاذعًا في الأوساط الاجتماعية، فقد ظنّ الجميع أنًه ذم الأم من حيث أراد أن يمدحها.
وهناك من يعيش الرعْب عندما يتخيّلُ حياة بدون أمّه يجوسُ في دارها فلايرى لها أثرًا.
إنّ الأم مثل الماء الزّلال حقّا، إنها ضرورة مُلحّة، وجديرٌ بالماء أن يكون أساس الحياة كما وصفه الله تعالى في كتابه الكريم:
«وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ» «سورة الأنبياء، آية 30»
بالأم تسيرُ مراكب الحياة، وتحلو أيامها وينتصرُ وجود الأم في أيّ مناورة إنسانية، ويظل سيف اليتْم مسلطًا على من فَقَد أمه تنزف دماؤه ألمًا وحسرة، يبحث في وجوه الأمهات عن أمه ويتفقّد حديثها علّه يسمع صوتها، وكيف لنا أن نرى الأيتام من الأطفال دون أن تحنّ القلوب لهم؟!
قد تُمحى المعاني عن الكلمات لتحلّ عوضًا عنها معانٍ مُغايرة، هذا ماحدث لي عندما رأتني فتاة في عمر الزهور في أحد المحافل الاجتماعية، لقد اقتربت مني بهدوء وهي تهمس بأذني، أسرّتني ببضع كلمات فحاولتُ جاهدةً ألا تسقط دموعي، ابتسمتْ بعمق وهي تقول:
أنت تشبهين أمي كثيرا، لقد ماتتْ أمي منذ شهر، وكنتُ مشتاقة لها كثيرًا، لكنني الآن لايمكن أن أصِفَ لك حجم مشاعر السّعادة التي اجتاحت كياني عند رؤيتك، فأنا أرى أمي مُجددا.
تصاعدتْ في الحال دقّات قلبي، ورحتُ أتأملُ نظرات عينيها وفَهمتُ مضمون رسالتها.
قالتْ لي بمنتهى البساطة:
ليتك تُصبحين أمي.
أيّ كائن عجيب أنت يافتاتي الصغيرة؟!
هل باستطاعتي التّخلّص من تلك العواصف التي غيرت مسار قلبي؛ لقد أصبحتِ تسكنين إحدى غرفاته!
جرفتني مشاعر الأمومة صوبها فأخذتها بين أحضاني، نسيت عالمي، وتجاهلت جميع من كان يحْدق فينا، وكدتُ أتلاشى لأحلّق في عالم آخر وأنا أتمتم لنفسي:
يبدو أنّ نهاري كان مُبهِجا.
عندما كتبت الكلمة الأولى في هذا المقال قصدْتُ في مطلع حديثي أن أخبركم عنها، لكنني تذكرتُ أن أمي تنتظر زيارتي بفارغ الصبر، أُميّ تُعيد تَوهّج روحي.