المثقَّفُ العَربي.. إشكاليَّة المكَانة والدَّور والتَّأثير
يولدُ الشَّاعر فتفرحُ القبِيلة، وتقيمُ الاحتِفَالات، وتضربُ النِّساء بالدُّفوف، ويلعبنَ بالمزاهرِ والمعازِف، وتُذبح لأجلِه الذَّبائح؛ لأنَّه لِسانها وصَوتها الذِي سيأخذُها إلى درجَات المجدِ، بما ينثرُ من فخرٍ على رجالاتِها ومآثرِها؛ كي تبقى الدهر كلَّه، إذنْ لا غرابةَ أن يكُون له مَقام عالٍ بينَ النَّاس؛ يحترمُونه ويقدِّرونه ويرفعُونه إلى مصافِّ العُظماء، وهو ما ينسحِب على الخطِيب البَارع في الحدِيث، إذ يرتقِي الحِكمة علَى مهْلٍ؛ ليبرُز كسيِّد في قومِه، مُطاعٍ بينَهم، مقدَّرٍ لدَى أعدائِه، يهابُونه ويخافُون سطوَته وقولَته. الشَّاعر والخطِيب عَينان في رأْس، يمثِّلان الثَّقافة العربيَّة القدِيمة، حيثُ هُما حامِلا أسرارِها ومستودَعا كنُوزِها، ولهذَا السَّبب يتمُّ الاحتِفَاء بهما وتقدِيرهما.
لا تنفصلُ أدوارُ المثقَّفين العرَب قديماً عن الحاجةِ الاجتِمَاعيَّة، فكَما تُناط بهم مسائلُ اللغةِ والتَّعبير والنَّشر، كَذلك يقومُون بتأدِية خدماتٍ للمُجتمع؛كالخَطابة والمدِيح والرِّثاء، وتخلِيد المآثرِ ومُشاركَة الأفراحِ والأتراح، بل إنَّ الرِّجال حِينما يريدُون خِطبة النِّساء يندبُون مَن يتحدَّث نِيابة عنهم ويكُون طلِيقاً فصِيحاً؛ يعبِّر عمَّا يريدُون أحسَن تعبِير، فيذكُر مزاياهُم، ويتحدَّث عن أخلاقِهم سلُوكيَّاتهم، وهوَ فِعل جاهِلي استمرَّ بعدَ الإسلَام وكَان له حضُور في البُلدان المنضَوِية تحتَ لِوائه، هكَذا نالَ المثقَّف مكَانة ونفُوذاً بينَ النَّاس وداخِل المجتمَع؛ نتيجةَ قِيامه بأدوارٍ اجتماعيَّة وخدميَّة، لينُظر إليه بمودَّة وتقدِير واحتِرام، وهيَ نظرةٌ رسَخَت في الأذهَان بمرُور الأزمَان.
معَ تقدُّم الحياةِ واستمرارِ نموِّ الدَّولة الإسلاميَّة واتِّساع رُقعتها، ودخُول الأُمم والشُّعوب تحتَ سيطرتِها، ازدادَت الحَاجة إلى الخَطابة والنَّثر، وكَما كَان للشِّعر في الجاهليَّة من سَطوة وهَيمنة على مفاصِل الثَّقافة، حصَل ما يُشبِهه في العصُور اللاحِقة؛ لأنَّ الدُّول لا يمكنُها أن تُسيِّر شُؤونها إلا بالكتابَة والتَّدوين، فالخراجُ والزَّكاة ومصارِف الدَّولة والجُند، وكلِّ مُستلزَمات المعَاش، في حاجَة إلى تدوِين وتسجِيل، وهوَ ما أعلَى من قِيمة الكتابَة ورفَع من مَقام المتعلِّمين، ولمَّا استُحدِثت وظِيفة كَاتب الأمِير، وجُعل مسؤُولاً عن مُراسلاته ومُخاطباته؛ بِسبب ما يتمتَّع به من ثقافَة عاليَة واطِّلاع واسِع؛ ظَهر تأثِيره في الحيَاة العامَّة، إذ كَانت تتمُّ مُشاورته والأخذُ برأيِه.
تأثيرُ الكاتبِ في إصدارِ الأحكامِ وتسييرِ شؤونِ البِلاد؛ يعدُّ تقديراً كبيراً لشخصِه وجهُوده، وتكريساً لمكَانته وأهميَّته، فلم يعُد ذَلك المجهُول الذِي لا يعرِف عنه النَّاس شيئاً، بل باتَ صاحِب شَأن وصَاحب حَظوة، وكثيراً ما اعتمَد عليه الأمراءُ والقوَّاد والرُّؤساء في كتابَة خِطاباتهم وتدوِين رسائِلهم، فشاركَهم الرَّأي والمشُورة، ونالَ ثِقتهم وحِمايتهم واحتِرامهم، وبالمِثل عاملَه القريبُون منهم ممَّن سكَن قصُورهم ومُعسكراتهم، فازدادَ تأثِيره وعلَت مكَانته بازدِياد الحَاجة إليه، وهوَ ما يُمكن تبيُّنه من تَرك الأمِير حرِّية كتابة الرسائِل له، والاكتِفَاء بالاطِّلاع عليها قبلَ إرسَالها؛ إذ كَان مَوضِع ثِقته، ومُستودَع أسرارِه.
ارتباطُ الكتابةِ بالنَّثر، واشتقاقُ مهنةِ الكاتبِ منها، جعلَها في مُقابل الشَّاعر، الذِي اُشتُقَّت مِهنته من الإلقَاء، فاكتمَل في الثَّقافة جناحَان هُما الشِّعر والنَّثر، اللذانِ شكَّلا أبرزَ فُنونها، وإذا كَان الشَّاعر نالَ الحَظوة والمكَانة لدَى الخُلفاء والأُمراء والقوَّاد، فالكَاتب أيضاً استَطاع أن يُوجِد لنفسِه موطِئ قدَم ونافَس للحصُول على هذهِ المكَانة، يُضاف إلى ذَلك استِقلاله بفنِّه، واستِثماره لمواهِبه في التَّأليف والتَّصنيف، فخرَج من إطارِه الوظِيفي إلى الحالَة الثَّقافية العامَّة، التِي لا تتوقَّف عِند مجرَّد تقدِيم الخدَمات الاجتماعيَّة والمؤسسيَّة، إذ تجاوَزتها إلى خِدمة الثَّقافة ككُل، كَما فعَل الفراهِيدي وسِيبويه، والفَارابي والكِندي، وابنُ سِينا والرَّازي، والقُرطبي والذَّهبي.
اتَّجه المثقَّف إلى الكتابةِ والتَّأليف، فانشغلَ بتدوينِ تُراث العربيَّة والعلُوم المتَّصلة بها، ثمَّ بادرَ إلى تزوِيد الثَّقافة بما تحتَاج إليه من دِراسَات وبحُوث، حتَّى كثُرت الكتابَات والتَّصنِيفات، وأثرَت الحركَة العلميَّة والمعرفيَّة، وأثَّرت في تطوُّرها وارتقائِها، وبسبِب جهُوده نالَ احتراماً ومكَانة، لذا صَار النَّاس يتناقلُون كتابَاته ويستشهدُون بآرائِه؛ ما دفعَه إلى عرضِها على الأمِير، الذِي تبنَّاها واحتفَى بها وأجزَل له العطايَا والهدايَا؛ لتسجِيل اسمِه في الصَّفحة الأُولى باعتبارِه راعِي العمَل، ووليَ نِعمة الكَاتب، ومن يحتَاج إليه في تسيِير جمِيع شؤُونه، فحدَثت المنافسَة بينَ الأُمراء على رِعاية الكتَّاب وتخصِيص الأموَال لهم، أمَّا نتائِجها فتمثَّلت بتأسِيس المكتبَات الخاصَّة ومكتبَات القصُور، التِي بحثَت عن الجدِيد من الكتابَات والتَّصنِيفات بغرَض اقتنائِها وضمِّها.
تنافسَ المثقَّفون للحصُول على الحظوةِ والمكَانة لدَى الأُمراء والوُزراء، فكَانوا نُدماء لهم يُجالسونهم ويُسامرونهم، يُضاف إلى ذَلك أنَّهم كَانوا بمثابَة مُستشاريهم العارِفين بأحوالِ النَّاس وأوضاعِهم، ومن هُنا جَاء تأثيرُهم في إدارةِ شؤُون الدَّولة، ولمَّا لم يكتفُوا بدَور الاستِشارة، ومارسُوا أعمالاً ثقافيَّة أُخرى من قَبِيل التَّرويج للأفكَار الجدِيدة والنَّاشئة بفِعل الانفِتاح المعرِفي، كَما فعَل المعتزِلة والفَلاسِفة بتأسِيسهم المدارِس العقليَّة في مُقابل مدرسَة النَّقل، والتِي على ضوئِها تقدَّمت الثَّقافة وخطَت خطُوات واسِعة في المناهِج العمليَّة والتجريبيَّة، فساهمَت في اِنطلاق الحضَارة وصعُودها.
زيادةُ الكتبِ والتَّصنيفاتِ وكثرةِ المُقتنِين والقارئِين، ساهمَت بتأسِيس صِناعة مُتكَاملة للثَّقافة؛ بِدءاً من تجهِيز الأوراقِ والأحبَار، مُروراً إلى اِختيار النُّساخ والخطَّاطين، وليسَ انتِهاء بالفنَّانين الذِين يرسمُون المُنمنَمات وأشكَال الزِّينة والزُّخرف، إضَافة إلى التَّجليد الفاخِر والمذَّهب، والاحتِفَاظ بالكِتَابات النَّفيسة في صَناديق من العَاج؛ ما يعنِي أنَّ تأثِير الثَّقافة والمثقَّف تجاوَز الجانِب الاجتِمَاعي إلى الاقتِصَادي، إذ قامَت دَورة اقتصاديَّة مُتكَاملة من الصِّناعة إلى التَّسويق والبَيع، فأخذَت الكتُب والمؤلَّفات تنتشِر ويُصبح لها سُوق رائِج؛ نتيجَة اهتِمَام النَّاس ومتابعتِهم لما يُطرح من أفكَار وآراء، مُضافاً إلى ذَلك عِناية الدَّولة بإبرازِ الطَّابع الثَّقافي الخَاص بها، وهوَ ما استدعَى العِناية الفائِقة بالثَّقافة والمثقَّفين؛ لكَونهم الأقدَر على القِيام بهذَا الدَّور.
العنايةُ بالثَّقافة والمثقَّف امتدَّت إلى استقطابِهم وإقامةِ مجالسَ للحُوار والمناقشَة، شَارك فيها الأُمراء والوُزراء وكبارُ رجالِ الدَّولة، الذِين كَانوا مُستمِعين جيِّدين ومُحاوِرين بارعِين وطَارِحين هامِّين لإشكَالات ومُلاحَظات، لذا لن يكُون غريباً إهداءُ الكتابَات لهم، فإضَافة إلى المنافِع الماديَّة المتمثِّلة في عطايَاهم وهدايَاهم، عملُوا على تشجِيع الكتابَة والتَّأليف، وساهمُوا في نشرِها وترويِجها، فالمجالِس التِي تُعقد فيها النِّقاشات الحُرَّة، تُعتبر شاهِدة على اهتِمَامهم بالعِلم والعُلماء، وقدْ استثمرُوها في التَّأثير على النَّاس؛ نتيجَة تَنامي القِراءة وانتشارِها بينَ الطَّبقات المختلِفة، وهوَ ما يعنِي مكَانة أعلَى وتأثيراً أكبَر للمثقَّفين.
انعكسَ اهتمامُ رموزُ الدَّولة بالعلمِ والعُلماءِ على مكَانةِ المثقَّفين، فأصبحَ لهم تأثِير كَبير على أفكَار النَّاس؛ حيثُ ساهمُوا في تشكِيل تصوُّراتهم الذِّهنية وتنظِيم أفكَارهم ورُؤاهم حَول الأحدَاث والمجريَات الحياتيَّة، كَما عمِلُوا على إشَاعة الحِوارات الثَّقافية في المجالِس والأسوَاق، عبرَ أُطروحاتهم وأفكَارهم المتناقِضة والمتعارِضة، فكثيراً ما طرَح مثقَّف فِكرة ليردَّ آخرُ عليها بفِكرة نقِيضَة؛ ليحتدِم النِّقاش العِلمي، الذِي ربما خرَج عن السَّيطرة متسبِّباً في كَوارِث غَير محسُوبة، كَما حصَل لسِيبويه في مناظرَته معَ الكسَائي؛ إذ انتهَت برحيله نحوَ خُراسان ليمُوت هُناك حَسرة وحُزناً، بعيداً عن مدِينة البَصرة التِي كَان أهمَّ شخصيَّاتها الثَّقافية.
بصرفِ النَّظر عن صحَّة الرِّواية أو عدَم صحَّتها، إلَّا أنَّها تُبيِّن التَّأثير الهائِل للمثقَّف، إذ يتمُّ استدعاؤُه والتَّرحيب به في مجالسِ الخُلفاء، وتُنصب له المنابِر كَي يُلقي مُحاضراته وينشُر معارِفه ويُناظر مُخالِفيه؛ لتنتشِر بعدَها الآراءُ والنِّقاشات بينَ عامَّة النَّاس، الذِين يأخذُون في تداوُلها والانتصَار لأحَد أطرافِها، ويظلُّون على تِلك الحَال إلى أن تَأتي نِقاشات جدِيدة وأفكَار مُختلِفة تمحُو ما سبَق، فيأخُذ النَّاس بمناقشَة المسائِل المستجدَّة؛ لتتوسَّع دائِرة التَّأثير وتمتدُّ وتنتشِر إلى أن يعُود المثقَّف إلى ديارِه ومجلسِه، حيثُ يتقاطرُ الرَّاغبون في النَّهل من علُومه والاستِزَادة من معارِفه، متحدِّثين عن أفكَاره ومبادِئه، وهذهِ قمَّة التَّأثير؛ لأنَّهم سيعملُون على نشرِها بينَ تلامِذتهم والدَّارسين عليهم.
الدُّول الحديثةُ اختلفَت أنظمتُها وقوانينُها، ومن ضمنِ الأنظمةِ المختلفةِ ما تعلَّق بوظِيفة الكَاتب، التِي تمَّ إلغاؤُها واستبدالُها بوظائِف متعدِّدة، ذَات تسمِيَات متنوِّعة؛ كالسِّكرتير والمستشَار والمساعِد، الذِين ليسَ مطلوباً منهم امتلَاك ثقافَة عاليَة واطِّلاع واسِع، وإجادَة لعلُوم اللغةِ والمخاطَبة والتَّراسُل، فيَكفي أن يُجيد الشَّخص كتابَة الرِّسالة بدُون تفنُّن وزيادَة لفظيَّة، معَ مُراعاة المراتِب والمخاطَبات لكلِّ الأشخَاص الواردِين، وعدَم خلْط الألقَاب بينَهم؛ لكَي يحصُل على الوظِيفة، وهوَ ما يعنِي عدَم الحاجَة إلى شَخص يقُوم بوظِيفة ودَور الكَاتب القدِيم، سَواء على المُستوى الاجتِمَاعي أو الاستِشَاري؛ ما يُشير إلى انتِقَاله من خَانة النُّفوذ والهيمَنة والسَّطوة إلى خَانة التَّأثير المتدنِّي والمحدُود والعَادي.
الصُّورة المرسُومة للمثقَّف في الذَّاكرة ترتفعُ به عن مُستوى المؤثِّر العَادي، فلطَالما اقترنَ بالخُلفاء والأُمراء، ومارسَ أدواراً اجتماعيَّة كَبيرة وحَاسمة، كَما أنَّ أفكَاره وآراءَه كَانت حاضِرة في مُناقشات النَّاس، لهذا فصُورته كَمؤثِّر عادِي غيرُ واقعيَّة، مَهما حَاول الآخرُون التَّقليل من شَأنه وتقلِيص أدوارِه والاستِهزاء بكلِّ ما يتعلَّق به؛ حيثُ سيظلُّ يحتلُّ مكَانة عَالية تتناسَب معَ الصُّورة الذِّهنية المرسُومة عنه، وهيَ صُورة مُشرقة ناصِعة لا يُمكن حجبُها، لاعتمادِها على إرثٍ ثَقافي تَجاوز ألفَ عَام، وأيُّ إرثٍ بهذا الحَجم والامتِدَاد لا يُمكن محوُه، كَما أنَّ تغيِيره سيُعتبر من ضرُوب المستحِيل.
المثقَّفون يظهرُون في أزمِنة التَّغيُّرات المفصليَّة للدُّول والشُّعوب، لذا حِينما تقلُّ التَّغيُّرات المفصليَّة يتقلَّص حضُورهم، ويظلُّون ينتظِرُون الفُرصة المناسِبة، وهوَ ما يعنِي انتِظَارهم لسِنين طَويلة، وهذا ما يدعُو إلى التَّأمُّل في أدوارِهم ومِقدَار مُعاناتِهم، فجهُودهم لم تتوقَّف يوماً، لكنْ بسبَب غِياب التَّغيُّرات النَّوعية خفَّ تأثِيرها ورُبما اِنعدَم؛ كَما هوَ حاصِل في مَشاريع الجَابري والعَروي والوَردي وبلقَزيز وبنْ نَبي، إذ رُغم النِّقاشات والدِّراسات الدَّائرة حَولها؛ إلَّا أنَّها لم تَصِل لنتائِج نهائيَّة، يُمكن تَطبيقها واختبارُها على أرْض الواقِع؛ بسبِب غِياب الآليَّة المناسِبة لذلِك.
التَّأثير العامُّ وانخفاضُ مكانةِ الشُّعوب والدُّول؛ تسبَّب في انخفاضِ مكَانة وتأثِير المثقَّفين، إذ الاهتِمام انصبَّ على أُمور أُخرى؛ كَالميل لتمجِيد الرِّياضيين والمسرحيِّين والمغنِّين، معَ إهمالِ أدوارِ ومُساهمات المفكِّرين والفَلاسِفة والأُدباء، واعتِبَارهم غيرَ مُفيدِين فائِدة ذَات شَأن، وهذا الفِعل يُشير إلى تقدِيم المهَارات الحركيَّة والمواهِب الجسديَّة على العمليَّات الذِّهنية، التي تتطلَّب قدراً كبيراً من التَّركيز والانسِجَام معَ اللغةِ والمعرِفة، وهوَ ما أدركَه السَّابقون، وبسببِه أعطَوا العُلماء مكَانة عاليَة، إذ رأَوا عمَل الأذهَان أشرَف من عمَل الأجسَاد، وهذهِ النَّظرة رُغم غِيابها اليَوم، إلَّا أنَّه يُمكن بسهُولة استرجاعُها واستثمارُها.
الأدوارُ العامَّة والخاصَّة للمثقَّفين، ومشاركتِهم في صناعةِ الرأَي العَام وتوجِيه المجتمَع؛ تعنِي تقدِيم النُّصح له عَبر نقْد سلُوكيَّاته الخاطِئة والمنحرِفة، وهوَ ما مارسَته الكتابَات المختلِفة والنِّقاشات المتنوِّعة في أزمِنَة سابِقة، أمَّا اليوَم وبسبِب القيُود والقوانِين الرَّقابية، فالهرَب بالكَلمة إلى خَارج الحدُود الجُغرافيَّة يمثِّل حلًّا للمُشكلات إلَّا أنَّه لا يُنهيها، حيثُ الإشكَال يتمثَّل في غِياب الحرِّيات المتعلِّقة بمسَائل الكتابَة والنَّشر، التِي تعدُّ مَدخلاً للتَّأثير على الفَرد والمجتمَع، فما دامَت العوائِق والموانِع موجُودة سيظلُّ التَّأثير محدُوداً.
العلاقةُ بينَ المكانةِ والدَّور والتَّأثير في الثَّقافة العربيَّة اتَّخذت أوضاعاً متعدِّدة، فتَارة تمَّ الاحتِفَاء بها وإرضاءُ أصحَابها وتوظِيفهم في أعلَى أمَاكن صُنع القَرار؛ ما تسبَّب في نُهوض الدُّول وتطوُّرها الحضارِي، وتَارة تمَّ خنقُها وإبعادُ أصحَابها عن أمَاكن صُنع القَرار، فسقطَت الدُّول وعَانت من التَّأخُر والتَّراجُع، والمتتبِّع لحركَة الثَّقافة يجدُ المؤسَّسة طَوال تَاريخها حَاولت إغراءَ المثقَّف واستِمَالته إلى جَانبها، وحِينما لم تنجَح جهُودها سعَت إلى التَّضييق عليه ومُحاصرته؛ ما أنتَج ردَّ فِعل من قِبَله، إذ اتَّجه نحوَ الكتابَة الرَّمزية والإيحائيَّة، مُبتعداً عن تسمِيَة الأشيَاء بأسمائِها الحقيقيَّة؛ خشيَة على حَياته وعائِلته، مؤمِّلا الحِفاظ على مكَانته وتأثِيره.