آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:50 م

جواهر الماضي ورحيق الحاضر

سلمان العنكي

نترحم ونتحسر على الماضي، نندبه بين الحين والآخر، ويتمنى البعض رجوعه عندما يتذكر جمالًا فيه فُقد - يُعرّف بزمن الطيبين - والواقع ليس كله كذلك - كُرهًا كان أو اختيارًا أو بسبب حوكمة العولمة الغالبة الملزمة لنا بُعدنا عنه. ومن مزاياه كنا في سكن جامع لأفراد الأسرة، مائدة مستديرة حولها العائلة: الأب والأم، الأولاد، الأحفاد، الشيوخ والعجائز يقصون التاريخ، وينقلون الأحداث للصغار، فيتابعونهم كحالهم مع القنوات. استيقاظ قبل الفجر، تلاوة آيات الذكر الحكيم، أبواب ”الحارة“ مفتوحة يرى الأهل والأصحاب بعضهم متى شاؤوا، يقفون إلى جانب المحتاج بما أُتيح. هذا ماضينا وجماله - علمًا بأنه لا يخلو كما يُظن من الخلافات، بل بشدة أكثر مما نحن عليه أحيانًا، والحروب الطاحنة التي طالت لسنوات بين الأقارب والجيران شاهدة -. ومع ذلك، مُحق لمن عاشه أن يثني عليه بآهات من قلبه لتلك المعطيات، ولا يختلف اثنان أننا خسرنا جواهره.

في المقابل، لا ننسى حاضرنا الأجمل في نواحٍ أخرى من تلك بأضعاف متعددة، وإن كانت ألوانه مختلفة - منها الأسود -، لكننا ننعم بالناعم منها لو قارناها بما كان عليه أسلافنا من صعوبة العيش، الأكثرية لم تذق مرارتها لتقارنها بحلاوة يومها إلا من أدرك الحقبتين وأنصف. الواجب أن نشكر الله تعالى، وقد سمعنا ما مضى بآذاننا، وأدركنا ما في حاضرنا. نستعرض منها ثلاث حالات باختصار:

أولًا: الحياة الأسرية:

كانت البيوت بسيطة البناء، أغلبها من سعف النخل خصوصًا الأرياف، وما نذر من الطين في المدن. وأينما كانت، هنا أو هناك، فاقدة لأهم مقومات الحياة، لا ماء فيها، لا دورات صحية - من لزمته حاجة يذهب في الظلام إلى مكان عام معروف لسكان الحي يقضيها، وإن كان الوقت ليلاً يرافق المرأة والصبي رجل -. تجلب النساء الماء من عيون في الخارج للاستعمال عند الضرورة، لا إضاءة إلا من سراج، دون تكييف، لا مطبخ أو مجلس مستقل للرجال وآخر للنساء، والتي أصبحت كلها في وقتنا من أولى الضروريات. فأعطت منازلنا الجمال والأناقة، هواء بارد، حوائط عازلة، سقوف مؤمنة مريحة، مطبخ متكامل، حمامات مكسية بأشكال الرخام والسيراميك، والكهرباء مدار الساعة، فرشت الأرض بالسجاد، تأثيث بالأجهزة وما نحتاج. فأين هذه من تلك؟ ألا تستحق الإطراء؟

ثانيًا: العلاقات الاجتماعية والتجارة:

كانت نقطة التواصل حقًا حسنة، رابطتها قوية - مع ما تتخللها من مشاكل -، لكنها في نطاق ضيق، محلية محدودة غالبًا في بلد السكنى وما حولها، ولا بديل للتلاقي سوى المباشر عند الكلام وحال الحاجة. اليوم اتسعت الرقعة وتشعبت بعد الانفتاح، وكثرت المعارف والارتقاء إلى العالم الافتراضي بتوفر الوسائل المتاحة، أصبحنا قرية واحدة في جهاز محمول في الجيب، قُرب البعيد ونطق الحديد وتحرك. نتكلم مع الأحباب، نخاطبهم، نراهم كل ساعة عكس ما مضى، من بَعُد عنا أميالًا لا ندركه إلا بعد سنوات، يموت لا نعلم لعقود وإن كان من المقربين أو من ذوي الأهمية لنا وللمجتمع. قديمًا، وإن لم ندرك التعامل التجاري كان ”بالمقايضة“، بمعنى سلعة مقابل أخرى، بعدها حلت النقود، إن حملتها أثقلتك، ثم جاء دور الشيكات، حتى وصل بنا الأمر اليوم لا نحتاج لهذه ولا لتلك. أُتيحت خاصية التحويل البنكي وبطاقة الصراف للمشتري على المستوى العالمي أيضًا، بالإمكان طلب ما تريد شراءه من مواقع على الشبكة العنكبوتية، ويصل لبابك في مدة قصيرة - ندفع قيمة الشراء ونستلم مقابل المبيع دون أن نرى المال -. ومع ما في هذه المعاملات من مخاطر جسيمة إلا أنها أراحت، وفرت الوقت ووصلت الطلب دون عناء.

ثالثًا: وسائل النقل:

كان الآباء والأجداد يقطعون المسافات البعيدة، على سبيل المثال من القطيف إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، رجالًا والأمتعة على ظهورهم أو ركبانًا على الرواحل ”الحمير والجمال“، معرضين أنفسهم للمخاطر، تستغرق رحلتهم شهورًا، تنقطع بهم السبل، يميتهم العطش، ينهكهم الجوع لفقد التموين في الطريق، تغيب عن الأحباب أخبارهم، لا يعود من العشرين عشرة. ولا زال كبار السن يتذكرون ذلك، وربما بعضهم سلكه وعانى. الآن، مع وسيلة النقل السريعة، بإمكان واحدنا يفطر في الدمام، يتغدى في باريس، يتعشى في نيويورك، وكل طلباته متاحة بين يديه وثيابه نظيفة. نعمة حاضرة علينا شكرها... إذا ليس كل ماضٍ جميلًا، ولا كل حاضرٍ ذميمًا، وحتى نجمع الاثنين معًا نأخذ المحاسن ونترك المساوئ من هذا وذاك.