حقيقة موت القراءة
لو كان ما يقوله الدكتور عبد الرحمن الحبيب عن انتهاء زمن القراءة دقيقًا إلى الدرجة التي كتب عنها فإننا بالفعل أمام تحول دراماتيكي في مفهوم القراءة والكتابة. فالحبيب يقول إن الحروف الكتابية هي رموز اخترعها الإنسان لكي يسهل من خلالها تناقل المعلومات، وإن الأساليب البصرية والسمعية هي الحالة الطبيعية الغريزية للإنسان منذ ولادته، وهي التي كان يعتمد عليها الإنسان البدائي منذ بدء التاريخ ويسميها الحالة المشهدية. بل يضيف أن: اختراع ثقافتنا للكتابة والقراءة ما هو إلا حادث عابر، إنه عمل مصطنع ثقافيًّا طورناه، لكنه ليس ضمن طبيعة البشر، ولن نحتاج بعد قرنين لهذه الوسيلة لبث المعرفة، وهذا نص ما قاله عالم الأعصاب مارسيل جاست من جامعة كارنيغي ميلون. وتضيف فكرة جاست أن القراءة ”ملكة صعبة تقنيًّا، تتطلب سنوات من التعليم، بينما دماغنا البصري يتعود دون أي جهد تقريبًا على ألعاب الفيديو“ «صحيفة الجزيرة - 8 أكتوبر 2018م».
فعلى هذا الأساس هل نعد هذا الواقع عاديًّا ونتكيف معه معتبرين الأساليب البصرية والسمعية هي القنوات الأساس للحصول على المعرفة؟ وهل نعدها كافية ونتوقف عن أي تأنيب للضمير وبكاء على أطلال الكتب والمكتبات وأي حنين «نوستالجيا» لها ولروائحها وملمسها؟ وهل نتوقف عن تأليف وطباعة الكتب وتحويل مسارها إلى إنتاج الوسائل السمعية والبصرية؟ وهل نتوقع للكتب المطبوعة مثلًا، التي تبلغ أعدادها في العالم مئات الملايين من النسخ، أن يكون مصيرها مصير الكتب المخطوطة التي نرجع إليها عند الحاجة الملحة فقط وعند الضرورة؟
هذه الأسئلة برسم المستقبل القريب في زمن متسارع يتغير فيه كل شيء، وربما كان الثابت الوحيد فيه هو التغير نفسه الذي أصبحت ملاحقته أمرًا عسيرًا على الجميع، بل حتى على المتخصصين منهم. وفي مسألة القراءة يجدر بالمهتمين به أن يتكيفوا مع الواقع الجديد، وأن يحاولوا ألا يؤطروا الأجيال الجديدة في أنماط ووسائل قرائية محددة كانت مناسبة لهم لكنها قد لا تكون كذلك لتلك الأجيال. فالمهم هو وصول المعلومة الصحيحة وبالتركيز المطلوب مهما كانت وسائلها. ربما يقول البعض إن المعرفة المعتمدة على الكتب أكثر صلابة وثراء وديمومة من الوسائل السمعية أو البصرية وما في حكمهما لكن الزمن والتطور التكنولوجي يدفعان الواقع باتجاه آخر ولا ينتظر من يكتفي بالبكاء على الأطلال. ومن يتأقلم مع هذا الواقع هو المرشح للبقاء في هذا الزمن الصعب.
* الكتاب الورقي هو أحد الأشياء القليلة الكاملة التي اخترعناها؛ العجلة والسكين والكتاب الورقي. ألبرتو مانغويل