الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك العبادة المظلومة
عندما يدخل أحباب الله للصلاة في المساجد، فإن الطبيعي هو شعورهم بالأمن والسعادة والسمو الروحي والإطمئنان كونهم قد دخلوا بيوت الله سبحانه المتصف بالرحمة والعدل والإحسان والمحب لمخلوقاته جميعاً دون استثناء، لكن للأسف يختزن كثيرون منا من الجيل القديم أقلاً، أو لنقل البعض منا - لعل هذا يحظى بالقبول والإجماع -، ذكريات سيئة لمواقف حصلت لهم أيام الطفولة، عند زيارتهم لبيوت الله في بدايات التجربة الروحية الإيمانية، وذلك خلافاً لما يمكن أن تتوقعه أن يحصل في دور العبادة، والسبب رجالٌ يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، متنمرون على عباد الله، ظناً منهم أن أفعالهم أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
سلوك الإساءة هذا الذي مارسه البعض في الساحة الدينية قديماً ضد الصبية الصغار، مثل الطرد لأخر صفوف الصلاة مثلاً، والذي يصح أن نسميه ب «التنمر الديني»، قد يحسبه البعض حالة طارئة استثنائية، ظهرت أو تظهر هنا أو هناك ثم سرعان ما تتلاشى وتختفي دون أن يبقى لها أدنى أثر، لكنها في الحقيقة ظاهرة شائنة منتشرة بصور شتى ودائمة، أنتقدها بعض الفضلاء من رجال الدين وغيرهم بغية الإصلاح، ولازالت مظاهرها رغم ذلك بحاجة منا للمزيد من جهود النقد والمصارحة والبحث والتدقيق والمعالجة، لذا رأيت هنا أن أخصص هذا المقال كمعالجة سريعة لما التمسته من مخاطرها في المجتمع، وللاشارة العاجلة لملابسات خطيرة تتعلق بها لتجعل منها إشكالية مرضية ووبائية عميقة.
ويمكننا القول أنك أينما حضرت وحيث ما وليت وجهك فستجد من نسميه ب «المتنمر الديني» حاضراً، سواءً في المساجد، حيث تجد هذا المتنمر يدقق في سلوكيات الناس ويفحصها، مقتحماً كثيراً من الخصوصيات، جاعلاً من نفسه «مقياس الصواب والخطأ» بميكروسكوباته الخاصة، ليهاجم هذا وذاك. أو تجده في غيرها من أماكن ومحافل يمكنه أن ينشط فيها أيضاً، فهو ناشط في كل مكان وكل مجال، تجده حاضراً في الشارع والديوانيات والمناسبات الإجتماعية المختلفة من أفراح وأحزان وفي وسائل التواصل الإجتماعية المختلفة عبر المنصات المتنوعة وفي أماكن العمل أيضاً … الخ. فمرة ستراه يمارس التهكم واستنقاص شخص ما، بسبب قصة شعر شبابية لا تعجبه، قصها شاب مسكين، ومرة أخرى ستجده يعمد لتحقير شخص آخر بسبب بوست نشره أو مقطع فيديو نقله أو مقالة كتبها، فلم ترق له ولم ترضي ذوقه أو قناعاته، أو تجده متصيداً للعثرات والزلات وصغائر اللمم، ومرة ثالثة أو رابعة أو خامسة سيظهر لك ليشعل حرباً دينية شعواء هدفها الحقيقي التصفيات المعنوية والمحاصرة النفسية والإجتماعية للآخر المختلف عنه في جدال ما، بغض النظر عن موضوع ذلك الجدال، فهو هنا فقط وفقط مهاجم شرس يمارس عنترياته، بسبب خلفية اصطفافات وتحزبات في ظل خلافات دينية معينة مترسبة في أعماقه، أو بسبب استصحاب قضايا ومواقف سابقة، ولأنه يغطي نفسه بغطاء ديني محاولاً التخفي بهالة القداسة التي قد تخفي أمام الكثيرين سلوكه المشين وأخلاقه القذرة أو ما يمكن أن نسميه أحياناً، لإيضاح المفارقة بين سلوكه وسلوك الإنسان الطبيعي، ب «سلوك اللقافة» الذي لا مبرر له - والذي يجب التأكيد على وصفه، لتقبيحه -، فستجد أنه أيضاً تواق للمزايدة الدينية، يعمل من خلالها ضمن آليات تجنيد الفريق، فهو يشاجر ويهاجم ويزأر طالباً ومتوقعاً النصرة من الآخرين، زاجاً في المعركة بحمل كل ما يستطيع من نصوص دينية مقدسة وأفكار دينية رائجة، مطوعاً كل ذلك لما يريد بمختلف الطرق والسبل، وحق ويحق له ذلك الاستنصار!، أليس هو الناطق باسم الله والمحامي عن دينه؟!. وإن لم يستطع التجييش أو النطق صراحة أمامك ضربك من تحت الحزام أو في الظهر - رغم أن المؤمن ليس بهماز ولا لماز، كما أنه لا يغدر ولا يفجر -، كي يظهر أمام الناس في صورة بطل الورع والتقوى الطاهر المطهر بحسب تصوراته وتصويراته للتقوى الباطلة المتوهمة، أو بطلاً عند نفسه في الأنانية ضمن إشكالات أمراض وعقد العظمة، لينفخ في صورة أناه المتغطرسة، لكنه عادة ما يجد لنفسه أنصاراً بين مجاميع الناس يصدقونه وسينصرونه، بسبب التبرقع الديني الخادع.
وهنا تظهر خطورة هذا التنمر وعمق جذوره أكثر، فالغطاء الديني يزيد من خطورة هذا المرض، وهجوم الفريق في ظله، لما تجلبه العناوين الدينية المستغلة من استقطاب ديني يجعل الضحية في مرمى أخطر وأشد السهام المميتة، من المتنمر وحاشيته المباركة، دون أن يدرك كثير من الناس موضع الخلل.
إن المتنمرين الدينيين ببساطة ووضوح، ما هم غالباً وإن لم يشعروا ولم يعوا، إلا «ملاقيف» «متغطرسون» «استعراضيون»، يشوهون الدين الرباني النقي السمح في جذوره بلوثاتهم الفكرية والسلوكية، وكثيرون منهم مصابون كآخرين غيرهم في الساحات الأخرى غير الدينية بأمراض سيكوباتية وعلل نفسية تجعلهم ينشدون التعالي والتلذذ بتعذيب ضحاياهم وتوسل السبل لتحقيق «الأنا» المريضة، لكن للأسف الشديد هنا تحت غطاء ديني، قد يصعِّب اكتشاف حالاتهم المرضية، وبينما يمارس هذا التنمر في قسم من الأفراد بسبب خلل سلوكي وعلل نفسية تستوجب المعالجة على الصعيد النفسي، يمارس فريق آخر التنمر الديني بحسن نية بسبب رواج ثقافة تنمر خاطئة توحي للفرد أن التنمر هو صفة حميدة وعبادة مقدسة يجب أن يمارسها الفرد أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر، ما يستوجب معالجة الأفكار وجذورها في الساحة الثقافية والفكرية، ولذا أقول هنا أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي فريضة أو عبادة مظلومة لما لحق بها من تشويه يقدمها في صورة القسوة والعنف، وربما أيضا أحياناً مارس البعض هذا التنمر الديني المذكور بسبب خبث السريرة وسوء النية لا بسبب الجهل ولا بسبب العلل النفسية، وذلك لتوظيف المتنمر ذلك لأطماع ومآرب يخفيها تحت جبته ولمصالحه الخاصة، وهو عارف بما عزم عليه وبما يستهدف، لتتراكم هنا الإشكالات بأنواعها في تعميق هذه المعضلة.
لقد عبث البعض ببعض مفاهيم الدين ونصوصه، لنجد أن البعض منا يستل بعض النصوص الدينية، خطأً وتخبطاً أو لعوامل أخرى، ليعزز بها ثقافة التنمر المشينة تعزيزاً للقسوة والخشونة والعنف، منتزعاً النصوص من سياقاتها التاريخية وزاجاً بكل نص له سياقات وحيثيات استثنائية أو خاصة في التاريخ في الساحة معمقاً للأمراض والعلل النفسية والسلوكية والثقافية والإجتماعية، من قبيل القول أن الخشونة التي هي التنمر الممارس «تنمر في ذات الله، مثلاً» مبجلين لها وناشرين لذلك الخلل في أوساط الناس، ناسين أو متناسين أن الأصل في مختلف الأديان غالباً والأصل في دين الإسلام خصوصاً، هو الحب والحكمة والمغفرة والرحمة، وناسين الآية الكريمة المباركة التي تقول «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين»، والتي تشكل أصلاً ثابتاً في الدين لا لبس فيه، ولا يصح الخروج عنه للاستثناءات إلا ببرهان.
وهنا يمكننا أن نتوقف عند هذا القدر، لنقول: أي تشويه للدين وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن نحصد هنا عندما يمارس البعض التنمر على عباد الله باسم الدين، وأي نفور من الدين يزرع في قلوب الناس عندما يبرر ذلك بعضنا بأنه مظهر من مظاهر قوة الإيمان وتجلٍ من تجليات قوة العقيدة، بينما الدين في حقيقته الراسخة، بما هو معلوم من الدين بالضرورة مبني كله على الرحمة ورفض الظلم، لم يأمرنا بأن تمارس تلك العبادات الدينية التي أمرنا بها إلا بالأساليب الإنسانية العقلانية الراقية، ولا يستثني ديننا الحنيف من ذلك إلا ما كان اضطراراً وضرورة عقلانية لا يمكن الفرار منها، كالنزال في ساحات القتال، وتدافع الناس بعضهم ببعض بالمثل، العين بالعين والسن بالسن في مفاصل حساسة جداً من الحياة وفي حدود العقل ومع تغليب الرحمة والحكمة، وما شابه؟! لا في الحياة الهادئة الطبيعية، التي أثخنها البعض جراحاً بتنمرهم على الناس باسم الدين، فأي عقل متنمر هذا الذي أبتلينا به، ليصدر لنا هكذا أفكاراً ضالة سيكوباتية، يتهجم بها على خلق الله وأحبائه وعباده تحت مظلة الدين وبتطويع عناوينه ونصوصه؟!.