لا هدوء في المكتبات!
يكذب من يقول إن المكتبات هادئة؛ فرغم أنها تبدو من أكثر الأماكن هدوءًا في العالم فإنها تضج بكثير من الأصوات، لكنها أصوات مختلفة عن غيرها في أنها لا يسمعها إلا من يختار ذلك. فمن يقرر أن يفتح كتابًا يناقش قضية شائكة؛ فكرية كانت أو علمية أو حتى تاريخية، فإنه يسمع صراخَ مختلِفِ الأطراف حول قضايا يختلفون حولها.
فمن أرسطو الذي كان يجادل الناس في الشوارع حول معتقداتهم، إلى غاليليو الذي لم يكن يتحمل قمع الكنيسة آنذاك له وجداله حول قناعته ودفاعه عن نظرية كوبرنيكوس حول مركزية الشمس ثم حول حركة الأرض، إلى محاكم التفتيش وما أعقبها من مآسٍ وآلام، ثم إلى صراخ الأمهات والثكالى والأرامل التي كانت تلي آلاف الحروب التي حصلت في هذا العالم.
صراعات الأدباء والشعراء على مر الحقب التاريخية تكاد تمزق الكتب من شدة صراخها، ثم الأنين الذي تسمعه من قصص المعذبين في أقبية السجون تاريخيًّا وهم يتلوون تحت سياط الجلادين فيما يسمى بأدب السجون، بمختلف اللغات. وهناك على رفوف المكتبات حكايات مخدّات المحبّين المعذبين في الليالي الحالكة، وما تختزنه من آهات الحب والغرام.
ولا يمكن أن يُخفي هدوء المكتبات الظاهري ما بداخل الكتب من قصص بكاء الآباء والأمهات المنسيين من قبل أبنائهم، أو الأبناء الذين تركهم آباؤهم راكضين وراء لذاتهم وشهواتهم غير عابئين بما يحدث لهم. فكم من أصوات كُتمت ولم يسمع بها أحد.
هناك أيضًا حكايات أنين الموءودات تحت التراب في الجاهلية، وصراخ المغتصبات في الغرف المغلقة، وآلاف القصص عن أنين ضحايا هيروشيما وناغازاكي التي انتهت خلال ثوان ولم يسمع بهم أحد لأن من سمعهم قد مات معهم.
هناك من كتب المكتبات ما يكاد يتمزق ويتفجر من قوة الصراخ والجدال المحتدم بين أطراف شتى داخلها لا يعلم بها إلا من يقرؤها. فهدوء المكتبات مجرد خدعة بصرية ليس إلا، تخفي وراءها صراخًا لا حدود له، يختصر جميع آلام وأنين ونقاش وجدال حقب التاريخ، مختفيًا بين دفتي كتاب على رف مكتبة في مبنى أضواؤه هادئة ويمنع فيه رفع الصوت حتى يستطيع القراء أن ينصتوا للصراخ الذي تتضمنه الكتب. فلا هدوء البتةَ في هدوء المكتبات.