الملجأ النفسي
الملجأ هو ما يفزع إليه المرء، طلبا للأمان من خطر ما؛ ولأن الأخطار النفسية أشد خفاء من الأخطار المادية، وهي تكثر أو تقل حسب درجة الاستجابة لها، وحسب رهافة حس من يعانيها، وشمول إدراكه لما حوله؛ لذا يحتاج كثير من الناس إلى خلق ملاجئ نفسية يلوذون بها، فمنهم من يلوذ بالبكاء، وهو أمضى الأسلحة فتكا أو تنفيسا عند الأطفال، وبعض الأفراد، نساء ورجالا، وبعضهم يلوذ بالصبر، وفي هؤلاء تقول الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة: «الصبر تلك فضيلة الأموات في / برد المقابر تحت حكم الدود / صبروا وأعطينا الحياة حرارة / نشوى وحرقة أكبد وخدود»
يطيب لهذا المقال أن يتأمل معنى الصبر، فهو إذا تم عن إرادة سمي حِلما، فتخرج الكلمة من حقلها الدلالي إلى آخر، ويبقى معناه مرتبطا بمعنى القهر والاستسلام لهذا القهر. وهذ ملجأ لكل مهزوم ماتت إرادته، كما قالت السيدة نازك. ويبقى هناك الصبر الذي يقابل الجزع، وهو ما يعانيه المرء من الحوادث والأمراض، وهذا غضب الحياة الذي لابد منه.
الملجأ الذي يهمّني الوقوف عنده، هو ملجأ واسع، له طوابق، وغرف، وآبار ومغارات، وهو ملجأ الكتابة. أتصور أن الفرق بين كاتب مبدع، وكاتب «على باب الله» يكمن في الدافع إلى الكتابة، فهناك من يكون دافعه دافعا نفسيا لا يعرف كيف انبثق فيه. وحين تقرأ ما جاء في كتاب «لماذا نكتب؟» لعشرين مبدعا، تجد من بينهم من يشبّه الكتابة بأنها عنده تلقائية كالتنفس، وآخرين لا يعرفون السبب لماذا يكتبون، وقليل منهم أضافوا الحاجة إلى المال إلى أسباب أخرى. ومن أجمل الإجابات إجابة ديفيد بالداتشي: «لو كانت الكتابة جريمة، لكنت الآن في السجن. لا يمكن إلا أن أكتب»
ذهب ذلك الزمن المائي، الذي كانت الكتابة فيه توصف ب «الرسالة» بكل ما في هذا الوصف من إيحاءات، لأن الكاتب آنذاك كان يشعر بأنه مسئول عن صدق ما يقول، أمام ضميره، وأمام مجتمعه، وكان هدفه رفع سراج على طريق المعرفة. ويعتز حين يرى وجهه في المرآة. أما الآن فكأننا في برج بابل، حيث اختلطت الألسن، وأصبح الصادق غريبا، يقابل بالسخرية، ويوصف صاحبه بالبلاهة والتحجّر الأخلاقي، ويغمره الحزن حتى «في ضوء القمر» كما يقول الشاعر الماغوط.